الاثنين، 28 يوليو 2008

"بركات".. سينما تترحم على الاستعمار

أبوطالب شبوب
فيلم "بركات" غير عادي.. هذا هو الوصف اللائق جدًّا بآخر إنتاجات السينما الفرنسية. غير عادي؛ لأنه يروي مقاربة فرنسية غريبة لسنوات الدماء في الجزائر، فبدلاً من تصوير الصراع الدموي بين السلطات والمسلحين الإسلاميين؛ فإن الفيلم يرى أن الذين مارسوا المذابح الجماعية هم مناضلو حرب التحرير الجزائرية.. وهم أنفسهم أباطرة المال واللصوصية وسدنة احتقار المرأة وظلمها.
"بركات" الذي شهدت قاعة "الموقار" بوسط العاصمة الجزائرية عرضه الشرفي، هو باكورة إنتاجات المخرجة "جميلة صحراوي" وهي من مواليد 1950، وقد تقاسمت بطولته كل من "رشيدة براكني" و"فطومة بوعماري"، فيما توزع السيناريو بين المخرجة "جميلة صحراوي" والسيناريست الفرنسي "سيسيل فير غافتي".
الإرهاب والمفاجأة
تبدأ الأحداث سنة 1990، باختطاف زوج البطلة أمال (رشيدة براكني) من طرف جماعة مسلحة؛ بسبب انتقاداته اللاذعة للعمليات الإرهابية التي شهدتها الجزائر في الفترة بين 1990 - 1999، فتقرر البطلة أن تبحث عنه، ولتفادي المشاكل واختصار الوقت فإنها تصطحب صديقتها الممرضة خديجة (فطومة بوعماري) في رحلة إلى معاقل الإرهابيين بأعالي الجبال.وبالفعل تنجح وصاحبتها في استنقاذ الزوج المختطف، ولكن على وقع مفاجأتين رهيبتين، تتمثل الأولى بكون قائد المجموعة الإرهابية مستثمرًا كبيرًا ومناضلاً سابقًا في حرب التحرير الجزائرية، أما المفاجأة الثانية فلا تقل إيلامًا ودراماتيكية، ذلك أن الذي نفذ عملية الاختطاف هو والد أحد الأطفال الذين أنقذت البطلة أمال حياتهم بحكم اشتغالها طبيبة.
هذه هي قصة الدم في الجزائر كما ترويها عدسة جميلة صحراوي، مناضلون وطنيون يحررون بلدهم، ثم يتفرغون لقتل أبنائه وسرقته بدلاً من تعميره.
هذا عن الجيل الأول والأكبر في جزائر الاستقلال، أما الجيل الثاني فيمثله شباب يتخلى عن أسرته؛ ليقتل من يقوم بتطبيبها (أمال) وزيادة وعيها (زوجها الصحافي)؛ لتكون المحصلة فشلاً مستمرًّا لمجتمع فقد أي رغبة بالحياة,
نظرة الفيلم للمأساة الجزائرية غريبة جدًّا، ذلك أنها تجرِّم مناضلي جيش التحرير الذين طردوا فرنسا بعد استعمار دام 132 سنة، وتلقي عليهم تبعة فشل مشروع المجتمع الجديد، كما تجرِّم الجيل الجديد من الجزائريين وتصمهم بالعنف والدموية، فيما توحد الجيلين تحت بند اضطهاد المرأة ومحاربتها باسم تقاليد بالية. وغني عن القول إن هذه النظرة لا تثمر سوى تمجيد المستعمر الفرنسي الذي وفّر "السلم الاجتماعي" أيام "عدله" توزيع الظلم لكافة شرائح المجتمع الجزائري.
التناقض
بدا سيناريو الفيلم غير مقنع بالمرة، ذلك أنه يعاني من أزمة مشاهد؛ إذ لا يمكن لرؤية واحدة أن تقنع الضحية "المشاهد الجزائري" والجلاد "المشاهد الفرنسي" معًا.
وعطفًا على ذلك سارت الأحداث باستخدام "قفزة الضفدعة" في عدة اتجاهات مختلفة لا رابط بينها ولا منطق؛ إذ فيما تُصرّ "خديجة" في أحد المشاهد على ارتداء "الحايك" -وهو لباس محلي يغطِّي المرأة تمامًا- ورفض "الحجاب" في شكله القادم من المشرق العربي؛ بحجة الحفاظ على التقاليد الوطنية، فإنها في مشهد آخر تظهر إصرارًا أكبر على ارتداء زينتها كاملة قبل خروجها من بيتها وتدخين سيجارتها بلذَّة غريبة. مشهد لا علاقة له بصورة "الحفاظ على التقاليد" التي تحاول المخرجة إلباسها لـ"خديجة".
وهو تناقض يتناسخ بطول الفيلم مع البطلتين ويُضعف تركيبتهما التي سعت المخرجة؛ لجعلها واضحة وصريحة في مقابل شخصيات بقية أفراد المجتمع المتسمة بالتردد والحيرة.أداء البطلتين كان متوسطًا مع أفضلية رشيدة براكني، وهي من مواليد 1977، والفائزة قبل ذلك بجائزة أفضل ممثلة عن "بينالي السينما العربية" الذي احتضنه معهد العالم العربي بباريس (دورة 2006)، وظهر تصوير كاتل ديجيان وصوتيات أوليف سكووب في مستوى جيد للغاية، في محاولة لتفادي عثرات النص وهشاشته، أما الموسيقى التصويرية التي أعدَّها عازف العود الجزائري المعروف بـ"علَّة" فقد اصطدمت مرارًا بسيناريو الفيلم للحد الذي يعتقد معه المشاهد أنها "أقحمت" إقحامًا فيه، ولم يجرِ الاتفاق بشأنها مسبقًا.
الفيلم الذي جاء كعمل مشترك فرنسي - جزائري، أوضح بجلاء أن الرؤية الحاكمة في أعمال كهذه هي رؤية الطرف المموّل، حتى إن كانت منقضة للواقع وللحقيقة أيضًا.

*الشرق الأوسط بتاريخ 24 نوفمبر 2006.

ليست هناك تعليقات: