الاثنين، 14 يوليو 2008

«حدائق الله».. حكاية الغباء المنتج للدم



كيف يمكن أن نحول العابث إلى إرهابي والباحث عن ساحات الجهاد إلى باحث عن أميرة حسناء والباحثة عن التميز الصحافي إلى مجندة للمخابرات الأميركية.. هذا ما تجيب عنه الرواية الأخيرة للكاتب التونسي سعيد الصافي.

الدوحة ـ شبّوب أبوطالب

تنطلق القصة ببطلين مزدوجين هما «عبد الرحمان» و «إيزابيل»، والاثنان على طرفي نقيض ظاهريا، فـ «عبد الرحمان» جزائري بكل الطباع الموروثة عن أجداده من عصبية وميل لحسم الأمور ووضعها في نصابها بسرعة وعدم تقبل أي انقياد للآخرين، أما «إيزابيل» ففرنسية تحب المخاطرة وتأخذ من مهنتها الصحافية زادا يعنيها على تحقيق مبتغاها، ومن تغطية الحروب والنزاعات أسلوبا مفضلا لممارسة هواياتها، ويلتقي الاثنان في مناسبة عامة فتعجب الأنثى بالذكر وينطلقان إلى المؤسسة الرسمية زوجا وزوجة، ولكن الحياة بينهما تستحيل، فالزوج عربي أشرس -في تدقيقه مع زوجته- من إدارة موظفين تلاحق الجادين وتترك الهازلين! أما زوجته فموظفة منطلقة لا تحب أن تقدم تقريرا بخططها اليومية لشخص لا يربطه بها إلا كونه زوجها!ينفصل الزوجان ويبدأ كل منهما رحلة في اتجاه مجهول، فإيزابيل تواصل سعيها خلف مطاردة الخبر الساخن والمعلومة الطازجة، أما زوجها فيتدَيّن بعد لقائه ببعض النشطاء الإسلاميين في باريس ويتحول تدريجيا إلى راغب في «الجهاد»، ومن فرنسا إلى السودان حيث يستعان به لصناعة سلاح يعين على تدمير القدرات العسكرية الأميركية، وهناك في الخرطوم يعايش حقيقة الحركات الإسلامية، ويعرف أنها كالوهم الذي جاء في غير أوانه، فلا الدنيا هي الدنيا ولا الناس هم الناس ولا الحسابات التي وضعها مخططوها صدقت يوما، وتتلوى الحياة في معسكر «الجهاد» بين خيانة الزعماء المحليّين والتلاعب الدولي بمصير المقاتلين الذين أنجبتهم مرحلة تركيع الجبروت السوفييتي، وهنا يقرر «عبد الرحمان» أن يثور هو وأصدقاؤه ويؤسسوا لعمل «جهادي» جديد، وتتوفر الفرصة المناسبة حينما يفر أحد الزملاء إلى تركيا ومعه مليون دولار، وتكلف القيادة «عبد الرحمان» بإقناعه بالعودة لكنه لن يقنعه بشيء سوى بدخيلة نفسه التي لم تظهر بعد، فمن السودان إلى مصر ولاحقا إلى تركيا، وهناك يلتقي بمطربة شهيرة أعلنت توبتها فتعطيه رقم «أميرة» تقيم في بريطانيا قائلة إنها ستساعده، وفي بريطانيا يحدث الازدواج في حياة بطلنا، فمن جهة هو يؤسس جماعة مسلحة جديدة، ومن جهة ثانية هو يغرق في غرامياته مع «الأميرة»، وبينما يقدم لأتباعه دروس الطهر والنقاء فإنه يهرع في الليل إلى «فراش حرام»، والغريب أن البطل يمارس عبثه بذات الإخلاص الذي يمارس به «جهاده»!أما «إيزابيل» فتعيش الازدواجية هي الأخرى، إذ تعيش على ذكريات رجل وزواج منتهٍ، وتعيش في مستوى آخر حياة العشق المجنون لأميركي لم تره سوى على شاشات النت، حيث تبادلا بعض الآراء السياسية، وشيئا فشيئا تنمو العلاقة بينهما خصوصا أن مجال النقاش يتسع، فـترحل «إيزابيل» إلى دول البلقان لتغطي حرب كوسوفا، وهناك تلتقي بإسلاميين «مُعَوْلَمِين» يبعثون فيها الرغبة في البحث حول دوافعهم وخلفياتهم، وهو ذات موضوع اهتمام صديقها الإنترنيتي «دوغ» الذي يبدو مهتما جدا بعالم الإرهابيين.يصل خط الرواية من جديد بين البطلين في شكل عبثي مميز، فيستكمل «عبد الرحمان» المتمرغ في مال الأميرة وفراشها تأسيس جماعته الإرهابية ويختار لها اسم «حدائق السماء» الذي يشتقه من اسم الفندق الذي يسكنه، أي فندق «sky garden» اللندني العريق، ويطير من لندن إلى أفغانستان بحجة خوض المعركة الفاصلة مع «الكفار»، أما «إيزابيل» فتكتشف أن صديقها الأميركي يشتغل مع وكالة الأمن القومي ومهمته هي محاربة الإرهاب، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه يجندها للتعرف على إرهابي خطير يملك سلاحا فتاكا واسما رنانا «أبو يحيي الأنصاري».. والذي لم يكن إلا زوجها السابق!.. وهنا يسدل الستار عن الرواية: زوجة ذاهبة للتجسس على زوجها دون أن يعرف كل منهما ما الذي ينتظره.لا تقدم الرواية نموذجا من نماذج الجنون التي تجتاح عالمنا العربي وحسب، بل إنها ترسم تفاصيل كثيرة وتتحدث في مواضيع متعددة، فمن خلال فتاوى «أبو يحيي الأنصاري» يتطرق الكاتب للانحراف الفكري الذي انخرطت فيه حركات المتشددين، فمن محاربة الأنظمة إلى قتل الأفراد ومن القتل المنظم العشوائي ومن «الفكرة» إلى «الهمجية»، وهناك في المقلب الثاني لمحة تفصيلية عن حياة الدبلوماسيين العرب من خلال ذكريات البطل وأصدقائه، ومنها نستشف أن عمل هؤلاء لا يتعلق بحماية مصالح دولهم، بل بتوفير كافة شروط الراحة لعائلاتهم أثناء تجوالها في البر الأوربي، ويشمل ذلك مصاريف السهر والعربدة، وكذا التوسط في صفقاتهم التجارية وتدبير متطلبات الانحراف الأخلاقي والمالي، أما إيزابيل فتكشف لنا زيف الصحافة الغربية ومدى التواطؤ الكامن بينها وبين أجهزة الأمن وأرباب المصالح، وكذا جهلها المطبق بما يحدث في العالم الحقيقي وبحثها المتواتر عن الصيغة التي تريحها في التعاطي مع أي حدث، بحيث لا يتوفر نقل دقيق ولا يكون هنالك اهتمام بالموضوعات الجادة، وإنما ينصب الاهتمام على «الموضوعات المرغوبة» أمنيا وسياسيا.تكشف الرواية أيضا كمّ الغباء الذي يتوفر عليه قطاع عريض ضمن المسماة بـ «الإسلاميّين» والسطحية العالية في التعاطي مع الشأن السياسي، والرغبة في تحقيق إنجازٍ مدوٍّ بغض النظر عن فعاليته وأهميته الميدانية ولا حتى عن عدد الضحايا الذين تذهب أرواحهم ضحية له، كما يتبدى واضحا الاختراق الاستخباري لعالم الإسلاميّين، والعبثية الرهيبة التي تسيطر على بعض قادتهم، ففيما يخطط «أبو يحيي الأنصاري» لهزيمة أميركا فإنه بذات الحين يفرح بميلاد ابنه غير الشرعي من الأميرة! وطبعا فإن هذا النموذج من القادة لا يمكنه إلا أن يهزم الدنيا ولكنه يستحيل أن يهزم ذاته!يشدّ أحداث الرواية جميعها خطّ ناظم يمكن أن يفسر كافة تفاصيلها، فالدنيا ليس هذا العالم الخارجي بل هي الذات الإنسانية المسكونة بالهواجس والشكوك والظنون، وكل الذي يفعله الإنسان من سياسة وحروب وجنس لا يمثّل رحلته إلى المجد أو الهلاك، ولكنه رحلته إلى الجانب الذي لا يعرفه من نفسه، وأدويته التي يقترحها على أمراضه المستعصية، وبالتالي فالمعركة الأساسية في داخله لا في خارجه، وذلك هو المعنى العمق للبيت الشعري الذائع الصيت «أتزعم أنك جرم صغير / وفيك انطوى العالم الأكبر؟».يبرهن سعيد الصافي في روايته الأولى على موهبة حقيقية، ولا بد أن كتابه الشهير «بورقيبة.. سيرة شبه محرمة» كان تدريبا عاليا على امتلاك زمام العمل الروائي، وقد ظهر أثره بقوة في قدرته على رسم الشخصيات وإدارة الحوار بينها ببراعة، ناهيك عن إحساسه العالي بالزمن واستغلاله الجيد للمعلومات التي استطاع جمعها خلال مسيرته الصحافية الممتدة على مدار 30 سنة.. كتاب يستحق القراءة!

العرب القطرية ـ 2008-07-11

ليست هناك تعليقات: