الأحد، 6 يوليو 2008

المسيري.. العربي الذي فهم إسرائيل جيداً




الدوحة - شبّوب أبوطالب رحل الدكتور عبدالوهاب المسيري عن سبعين عاما و57 كتابا وملايين من القراء المحبين والنقاد المحترمين والخصوم المقدِّرين، وعن مجد عريض لا يبدو الزمن قادرا على مسه أو العبث معه.رحل الرجل الذي زامل على مقاعد الدراسة مستشار الرئيس المصري، أسامة الباز، وصادق -شابا- الكاتب المصري محمد حسنين هيكل وانتزع إعجاب هيئات الدولة المصرية صغيرا، فكان أن عيّن باحثا بمركز «الأهرام» للشؤون الاستراتيجية مكلفا برئاسة «وحدة الفكر الصهيوني» في الفترة بين 1970 و1975، ومن ثم وُفِّرَ الدعم المادي له ليتفرغ لدراسة الحركة الصهيونية والتاريخ اليهودي بإشارة من محمد حسنين هيكل، فسافر إلى أميركا واقتنى كل ما احتاجه، وأصدر كتابه الأول عن موضوعه الأثير «نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني» عام 1972، ليطوّره لاحقا في اتجاهات متعددة ويحقق فيها نجاحا مطّرداً.يحسب لمصر أن فيها رجلين مثل أسامة الباز وهيكل، فالأول لاحظ ميول المسيري لدراسة الصهيونية وشجعه على التخصص فيها، أما الثاني فإنه وفّر الظروف المادية الملائمة له كي يعمل، ولا ريب أن القدرة على سبر بواطن الناس والإحاطة بالقدرات التي تختزنها عقولهم لا يعتبر عملا هينا ولا ميزة تتوفر لكل المشتغلين بالحقل العام، كما أن الجلد والمثابرة اللتين أبداهما المسيري طوال أكثر من 35 عاما يعدان أمرا نادر الحدوث وشديد التكاليف، وقد رضي المسيري بكل ذلك في سبيل تحقيق مشروعه الفكري الذي جمع بين التحليل شبه المادي للتاريخ والقدرة على ملاحظة التفاصيل التي تصنع التوجهات الكبرى لحركة الجماعات البشرية، وقدم خلاصة ذلك فيما يسميه «النموذج التفسيري» القائم على توسيع مدخلات البحث وملاحظة كافة العوامل الداخلة في إطاره قبل استخلاص نتيجة نهائية.وقد اختلف المسيري عن رفاقه من الكتّاب العرب من جهة حدّة ذهنه التي جعلته لا يغفل عن دور الدين في الحياة البشرية، ومن الجميل أن الرجل الذي انطلق يساريا إنسانيا وقد انتهى إسلاميا على حد التعريف الذي يقدم به نفسه على موقعه الرسمي في شبكة الويب ويقول فيه «مفكر عربي إسلامي»، ومن المفيد الذكر أن اهتمام المسيري بالأدب واشتغاله بالإنتاج الأدبي تأليفا وترجمة قد ترك بصمة كبرى لم ينتبه لها الكثيرون، فقد كان المسيري ليكون كاتبا يساريا حرفيا بامتياز، ولكن الأدب أنقذ فيه حاسة التفاعل مع المجتمع والتاريخ بشكل أكثر نزوعا للتعاطي مع الدين، وهي الميزة التي غابت عن رفاقه وجعلته قادرا على حل كثير من المعضلات التي تقف أمامها الفلسفات المجرّدة المنمّطة عاجزة.أما الميزة الأخرى التي توافرت للدكتور الراحل فهي جلده الكبير على البحث، وإخلاصه لعمله بشكل قلّ نظيره، واستعماله الاستثنائي لعقله، والذي قاده لتحطيم كثير من المسَلَّمات التي استولت على الفكر العربي من طراز «بروتوكولات حكماء صهيون» التي تعتبر في الفهم الأبسط «الخطة اليهودية للسيطرة على العام»، لكن المسيري اعتبرها أكذوبة كبرى، وقال إن مؤلفيها مجموعة من المسيحيين المتطرفين، مستدلا بكتابتها باللغة الروسية التي لا يكتب بها زعماء صهيون ممن يفضّلون أن تكتب أدق نواميس قوتهم بلغتهم الأم، ولا ريب أن خروج المسيري بهذا الرأي الصادم للرأي العام يعد جرأة وجسارة كبرى لا يستطيع تحملها إلا عالم كبير مخلص، ويضاف إلى ذلك جرأته عندما عصف الدكتور بمفهوم «الشعب اليهودي» الذي يتم استعماله بطريقة توحي أن اليهود تحركوا في كل الظروف كشعب واحد يواجه مصيرا مشتركا وينقاد لقيادة موحدة، وقد رفض الدكتور هذه الفكرة قائلا إن اليهود تحركوا كجماعات داخل حيز التاريخ البشري العام، ولاحظ بذكاء كبير علاقتهم بالقوى الإمبريالية والأثر الكبير الذي خلفته داخلهم، كما كان أحد الآباء الكبار للفكرة التي تقول إن «الصهيونية» لم تستخدم الاستعمار والإمبريالية بل العكس هو الذي حدث، ولا ريب أن هذا التحديد الدقيق للوضع الصهيوني ينفي البطولة المزعومة لمؤسسيه، ويكسر أي عقدة تفوق لدى إسرائيل باعتبارها مشروعا «خَلَاصياً» لكل يهود العالم، وهذا الذي دفع عضو الكنيست الإسرائيلي مائير كاهانا لتوجيه 13 خطابا تهديديا بالقتل للمسيري الذي استقبل ستة منها في العاصمة السعودية وسبعة في القاهرة، وكان مذهلا أن يعلن مائير كاهانا عن تهديده في 21/2/1984 عبر صحيفة «يديعوت أحرنوت» في سابقة هي الأول من نوعها!.. سابقة تكشف الخوف الإسرائيلي من الحقيقة والاتجاه السليم الذي كان المسيري منخرطا فيه، كما كانت تلك «إحدى» كرامات المسيري الذي كان أول كاتب عربي يعمل تحت الحراسة الرسمية!.عبّر المسيري عن خروج الفكر العربي من حالة الصدمة أمام إسرائيل كظاهرة سياسية واجتماعية، ويمكن اعتبار خطابه الفكري تأسيسا لمرحلة «تفكيك إسرائيل وفهمها» ووضعا للحجر الأول في مسيرة هدمها التي تقوم بها جماعات مناضلة من طراز «حماس» والجهاد الإسلامي» و «حزب الله» والتي تغذّت جميعها من كتب الرجل الذي ربما كان العربي الوحيد الذي فهم عدوه جيدا.رحل المسيري ولكنه لم يشأ أن يترك الدنيا قبل أن يسدّد ضريبة الوطنية كاملة، فقد تولى قبل سنة مهمة المنسق العام لحركة «كفاية» المعارضة للنظام المصري، وتحمل في سبيل ذلك الانتقام الأمني الذي تمثل في التضييق والملاحقة ولم ينته باختطافه وزوجته والاعتداء عليهما ثم رميهما في الصحراء! وهكذا جسّد المسيري التحول المؤسف في بلده، فبعد أن كان يكتب تحت الحراسة الرسمية -أيام تهديد مائير كاهانا بقتله- فقد أصبح عنصرا مهددا لـ «الأمن القومي» وبعد أن مولت الدولة المصرية بحوثه نهاية الستينيات فإنها استرجعت أموالها عن طريق إتاحة الفرصة لجلاوزة الأمن لتمرين عضلاتهم في شخص يحمل من صفات الإنسان كل شيء إلا العضلات! ولعل ملاحظة مسيرة أسامة الباز ومحمد حسنين هيكل والمسيري تكشف بوضوح ما يحدث في مصر، فالثلاثة أصدقاء، أحدهم ابتدأ نابغة سياسية وانتهى مستشارا لا يستشار، وثانيهم انطلق صاروخ إعلام وانتهى صحافيا مخضرما يشتمه من لم يعرفوا يوما مهنة الصحافة، وثالثهم رجل قدم عمره لبلده فقدم له بلده المرض والاعتقال والإساءة....رحل المسيري ومعه رحلت قيمة بلا حدود وقامة بلا تعويض وإنسان لا يسمح التاريخ لنفسه باستنساخه ثانية... وإذا كان علماء الدين يقولون بـ «المجدد» الذي يجدّد الدين على رأس كل قرن، فإن المسيري بلا ريب هو المجدّد الفكري الأول لعالمنا العربي الإسلامي!.

العرب القطرية ـ 2008-07-03

ليست هناك تعليقات: