الأحد، 13 يوليو 2008

تركيا.. أزمة الثقافة حينما ترفض التعددية




الدوحة - شبّوب أبوطالب
أليس مضحكا أن تكون تركيا بلدا للحرية والديمقراطية والتنمية المزدهرة، ومع ذلك تضيق بقطعة قماش تسمى حجابا؟ وقبل ذلك أليس مضحكا أن تكون المبادئ الثقافية التي قامت عليها ثورة أتاتورك نفسها ضد هذه التوجهات الجديدة لحظر حزب لمجرد أن بعض أفراده لديهم تفكير يختلف عن تفكير أصحاب القبعات الثقيلة.
عادت تركيا لتخطف الأضواء مجددا عطفا على التجاذب الكبير بين مؤسستها العسكرية وحزبها الحاكم، وإذا كان الجانب السياسي للقضية معروفا فإن الجانب الثقافي يظل مواربا ومختفيا، ولعل أكثر المفاجآت التي يخفيها أن الزعيم أتاتورك (12 مارس 1881 - 10 نوفمبر 1938) لم يكن ليفعل ما يفعله الناطقون باسمه في العصر الحالي، ما يعني أن المعركة في حقيقة الأمر لا تتعلق بخلاف سياسي بل بمنطق ثقافي يتكئ على الإرث الأتاتوركي -محصّن بمصالح ضخمة- ليرفض أي تغير في وضعية المجتمع ولو نحو الأحسن.ولأن المعركة الحالية في تركيا غريبة جدا عن المنطق فإن مراجعة بعض من مقولات أتاتورك قد تكشف بعض المستور، فالموقع الرسمي لوزارة الثقافة والسياحة التركية (http://www.kultur.gov.tr) ينقل مجموعة رائعة من آراء أتاتورك، ولنقرأ ما يقول في خصوص الدين مثلا «الدين قضية ضمير، ولِكُل كامل الحرية للالتزام بالنظام الذي يريح ضميره، لسنا ضد الدين ولا ضد التفكير»، فأتاتورك إذن ليس مع فرض نمط معين من اللباس أو التفكير على أي من الأشخاص الحائزين على مواطنية دولته، وإذا كان لقائل أن يقول بأن أتاتورك قد فرض الكثير من الأشياء على شعبه، فإن التاريخ نفسه يخبرنا بأن الانتقال من جهة أيديولوجية إلى أخرى يمر عبر مرحلة تغيير متشددة، ولكن هذه المرحلة التي تحفل بـ «التطهير الثوري» مؤقتة بجميع الأحوال ولا يمكن أن تفرض سِمَتها إلى نهاية التاريخ.يبدو غريبا في الدولة التي قال مؤسسها «إننا نحاول ببساطة منع الخلط بين الشؤون الدينية وتلك المتعلقة بالأمة والدولة»، يبدو غريبا في هذه الدولة أن يتم التحضير لمنع حزب حاكم لمجرد أنه أباح لكل شخص الحق في التعليم والعمل بعض النظر عن اللباس الذي ارتضاه لنفسه! أو عكف على التزامه الديني رغم أن أتاتورك قد قال في العام 1923 «ديننا هو الدين الأكثر منطقية، ولهذا كان آخر الأديان.. لكي يكون أي دين طبيعيا يجب أن يكون متوافقا مع العلم والمنطق، وديننا يتوافق مع كل ذلك بشكل كامل»، والغريب أن هذا التراث الذي تركه «أبو الأتراك» يبدو مهجورا ومتغافلا عنه بشكل فظيع للغاية، رغم أن استقراءه يمكن أن يفيد الأتراك بشكل كبير، فالدولة التي يقول مؤسسها «أساس الجمهورية هو الديمقراطية، ولست محتاجا لتفسير هذا الرأي، لأنه مترجم علميا في مدارس الجمهورية التركية.. الثقافة هي القراءة، المعرفة، التفكير وإعمال الذكاء»، هذه الدولة نفسها لا يمكن أن تضيق بمنطق ثقافي مختلف، ولو كان هذا المنطق إسلاميا، كما لا يمكنها أن ترفض التعاطي مع أي تعبير ديني أو ثقافي -كالحجاب مثلا- ما دام أنه لا يمس بشيء الآداب العامة ولا يؤدي إلى أية مضرة اجتماعية.وإذا ما حاكمنا دولة العدالة والتنمية على أساس من مبادئ أتاتورك نفسه فلعلها تكون أقرب الحكومات إلى فكره، أليس هو القائل عام 1929 «نحن نفهم الثقافة على أنها النتيجة الطبيعية لما يمكن أن يصنعه مجتمع إنساني ضمن حياته المؤسسية والثقافية والاقتصادية.. وتلك هي الحضارة بالمناسبة»، وبالتالي فإن مشكلة «الحجاب» هي في رأي أتاتورك الصريح نفسه جزء من الأداء الإنساني لمجتمع حدد خياراته، وسيرها بشكل معقول، فالمجتمع التركي بحضارته التي يعرفها الجميع أسّس لنفسه مجموعة خيارات سلوكية ومجتمعية، وما دامت هذه الخيارات كلها تدخل ضمن النطاق «الإنساني» أي نطاق الحرية الشخصية، فليس واردا أن تصادم القناعات الأتاتوركية، ولعل هذا المعنى قد يجد صداه في الشعار الذي خاض به حزب العدالة والتنمية معركته السياسية حول الحجاب، إذ لم يتم خوضها تحت المسمى والشعار الديني بل تحت لافتة «حقوق الإنسان»، وسيكون من الخيانة للمبادئ المؤسسة للجمهورية التركية أن يفرض على أبناء شعب نمط معين من اللباس لا يقتنعون به، أو نمط معين من التفكير ولا أن تصادر قناعاتهم الشخصية.ما الذي يحدث في تركيا؟ إن تفسير الحدث التركي بجانبه السياسي وحده يعد إخلالا بجوهره، كما أنه اختزال غير مبرر لقضية شائكة، فليس منطقيا أن الجيش يجاهر برغبته في الانضمام للاتحاد الأوروبي ثم يؤسس لانقلاب حكومي قد يبعد تركيا نهائيا عن هذه المنظمة العتيدة؟ وليس منطقيا أن الجيش يتحدث باسم الحرية ولكن يناهض توجها حكوميا لإعطاء الناس حرية اللباس! والحاصل في تركيا أبعد ما يكون عن معركة دينية، فهو بالأساس معركة ثقافية مصلحية، ذلك أن النظام الأتاتوركي الأول قد حمل نخبا معينة إلى الحكم، وقد اتسمت هذه النخب بالثقافة الغربية، وقد حصنت نفسها بمجموعة متماسكة من الجدران الثقافية والمصلحية التي ابتعدت بواسطتها عن الشعب التركي، وتقوقعت حول ذاتها، والذي يحدث الآن هو أنها ترفض ثقافة الأجيال الجديدة، والرهيب أنها تفعل ذلك باسم الدفاع عن العلمانية والديمقراطية، فيما تعني العلمانية والديمقراطية الحقيقيتان: إعطاء الناس حق الاختيار.لا تخوض تركيا معركة العودة إلى الإسلام أبدا، ولكنها تخوض معركة التجديد الفكري والثقافي، وتخوض معركة التحديث الحقيقي، ومعركة التغيير الكبير في المضامين التي تحكم حياة المجتمع العثماني المقبل على التصالح مع ذاته، والذي لا يمكن أن يقبل بجزء من هويته ويرفض جزءا آخر، ولمزيد من سخرية التاريخ فإن أتاتورك قال ذات يوم «سنتفادى الحركات الرجعية، ولن نسمح أبداً بإتاحة مثل تلك الفرصة للرجعيين»! فإذا كان معنى الرجعية هو أنها التيار الذي يشد المجتمع لأنماط ثقافية وسياسية غير متلائمة مع حقائق اليوم، فإن عسكر الترك يخوضون اليوم معركة «رجعية» ضد المفكرين الإسلاميين «الحداثيين»!... ولمزيد من السخرية أيضا فإن زوجة أتاتورك.. كانت محجبة!
العرب القطرية
2008-07-13

ليست هناك تعليقات: