الاثنين، 28 يوليو 2008

بشار مدينة المدن السبع.. بنتها الأساطير ونسجتها الحكايا

بشار (الجزائر): شبوب أبو طالب
حيثما تجولتَ في مدينة بشار، فإن الأسطورة ستظل رفيقك الدائم، منطقة قد لا تكفي سنة لزيارتها، ولكن تكفي لحظة واحدة لتمنحك الإحساسَ بأن سبعة عوالم كاملة تعيش داخلها.. ولكل عالم زمنه الخاص! تعتبر بشار عاصمة للجنوب الغربي الجزائري، ولا يفصلها عن العاصمة الجزائرية سوى ساعة ونصف من الطيران أي 950 كليومترا. بشار عبارة عن سهل هائل يمتد على مساحة 5000 آلاف كيلومتر مربع وتحيط به جبال ثلاثة؛ هي عنتر وقرزاز وبشار، ورغم وقوع المنطقة في الناحية الصحراوية للجزائر، فإن معدل الأمطار يقترب من 100 مليمتر سنويا، وهو معدل مرتفع للغاية، مما يبرر اخضرار بشار ووفرة الأشجار فيها.تتكون بشار من سبع مدن، هي بشار القديم، بشار الجديد، العبادلة، بني عباس، قرزاز، غار الذئبة وتابلبالة، بالإضافة إلى عشرات القصور التاريخية المنتشرة هنا وهناك، والتي تمنح المكان بُعدا أسطوريا يحيل إلى تاريخ ضارب في العراقة ولكنه غير مكتوب.وتبدو العراقة ماثلة في الحفريات التي يمتد عمر بعضها لأكثر من 25 قرنا، ولكن الثقافة الشفوية المسيطرة في المنطقة حولت التاريخ إلى حكايات يصعب فيها فصل الحقيقة عن الخيال، أو يصعب بالأصح التصديق بأن كل ذلك الجمال حقيقي لا مفتعل.تمتاز بشار بالتنوع الكبير في مناظرها، إذ توفر لهواة الصحراء فضاءات لا نهائية لممارسة كافة رغباتهم من رحلات السفاري إلى صيد الطيور والغزلان، كما توفر لعشاق التزلج على الرمال كثبانا رملية يزيد متوسط ارتفاعها عن الـ1300 متر، مما يجعلها موقعا مثاليا للتزلج، كما توفر المدينة لمحبي السباحة النهرية العديد من الأنهار والبرك، أما لمن يبحث عن الغرائب، فإن قصة المدن السبع هي أفضل أسطورة يمكن أن يلمسها بيده في تلك الناحية.فقد كانت بشار طوال تاريخها منطقة خضراء وسط بحر من الرمل يفصل شمال القارة الأفريقية عن وسطها، مما ضمن لها ازدهارا دائما، كما أن احتماءها ببحر الرمل جعلها أفضل مستقر يؤوي إليه الهاربون من العسف السياسي والخائفون على أنفسهم وأفكارهم، ولعل التمازح بين الصنفين أكد حقيقة غريبة، هي أن تاريخ بشار قد صنعه الضيوف والغرباء.فمن أبرز الشواهد على ما صنعه الغرباء تلك القصور المنتشرة حيثما توفر نبع ماء، فنظرا لاتساع المنطقة فقد جرت العادة أن يبني كل قادم جديد قصرا بالطوب المحلي، ويمارس داخله ما شاء من أفكار وتقاليد، يحدث هذا وسط تسامح كبير من سكان المنطقة الذين يتسمون بانفتاح غير عادي، وقد حدث هذا مع قصور «زاوية سيدي محمد» التي بناها المصلح الديني محمد بن موسى وعاش فيها مع أتباعه عيشة أقرب للغرابة، كما حدث مع قصر «غار الذئبة» الذي بناه أفراد قبيلة يَُسمون بأبناء الحسين وجعلوه قريبا من مغارة تشتهر بنقوشها الحجرية التي تمثل غزلانا وذئابا، كما حدث هذا أيضا مع قصر الأضرحة السبعة، وهي عبارة عن سبعة أضرحة عملاقة لا يعرف أحد لها تاريخا، ولكن جيرانها يقولون إنها هبطت من السماء ذات يوم مع مطلع الفجر، ورغم أن عمرها يزيد على القرون الثلاثة فلا زالت لغزا غير قابل للفهم.. بل إن الجيران لا يعلمون حتى شخصيات من بداخلها! ونفس الشيء مع قصر «سيدي عثمان» الذي تقول أسطورته إنه قدم من مصر مع نفر من أتباعه، وكان شيخا هرما، فلما أخذته سكرة الموت غرس عصاه في الأرض طالبا ألا تنزعَ حتى يفارق الحياة، وهكذا كان، فما إن صعدت روحه حتى انتزعت العصا وتفجر من أسفلها نبع ماء ما زال حاملا لاسم «سيدي عثمان» منذ أكثر من قرن غفل الراوي عن عدها.وأينما تجولت في المدن السبع لبشار، فلن تجد سوى الأسطورة، إنه بلد بنته الأساطير ونسجته الحكايا، ولعل ذلك راجع لتقاليد السمر الليلي، وهي جلسات مطولة يحتضن الشاي فيها الحكايا ولا تصفو إلا برغد العيش، عنصر مكفول جدا في بشار فالزراعة متطورة جدا والغلات الفلاحية تتراوح بين التمر والطماطم مرورا بالقمح والتفاح مما يجعل المائدة البشارية غنية للغاية، فهناك «الكليلة» وهي وجبة باردة عمادها الحليب المجفف الممزوج بنباتات محلية، وتصلح كمقبل لذيذ لوجبة دسمة تتراوح بين «الحريرة» و«الترفاس باللحم»، فـ«الحريرة» هي أول أطباق المنطقة المغاربية ككل، وهي عبارة عن قمح خاص يطحن بعناية ويضاف له السمن والأعشاب الطبية والطماطم وبعض الخضروات المطحونة بعناية، ما يفيد في إعطاء «طلقة تمهيدية» فاتحة للمعدة بانتظار الوجبة الثانية التي تختلف بين الليل والنهار، ففي النهار هناك «الترفاس باللحم» وهي وجبة تعد بواسطة «الترفاس» وهو نبات فطري محلي لا يزرع بل يتوافر في الطبيعة عقب كل موسم أمطار، وطعمه لذيذ للغاية لحد أن ثمن الكيلوغرام منه 10 دولارات. ويحضر «الترفاس» بعد تقطيعه إلى أطراف صغيرة تضاف لها كميات متوسطة من اللحم ويطبخ الكل في حساء من الخضروات، ومن شأن خليط كهذا ان يولد طاقة مضاعفة تساعد على العمل، على عكس «الكسكس» وهو الوجبة الرئيسية في منطقة المغرب العربي والتي يفضل البعض تناولها ليلا، وهي غنية عن التعريف، أما أنواع الخبز المحلي فتتراوح بين «المسمَّن» وهو خبز من طبقة واحدة يخلط بالسمن البلدي والعسل، و«الخبز» وهو شبيه بخبز الفرن الإفرنجي، ولا يختلف عنه إلا في مادة الإعداد.كما أن كثبان بشار الرملية توفر لك متكأً يذهب بك بعيدا في الزمن يطارد فيه خيالك آلاف الأساطير المزروعة في كل ركن من المنطقة، هذا إن كنت من هواة التخييم الطبيعي، أما إن أردت الفنادق فهناك أكثر من 10 فنادق جميلة ينطلق يبدأ سعر غرفها من 25 دولارا وتنتهي غير بعيد عن 150 دولارا. وتوفر هذه الفنادق إلى جانب إمكانات الإقامة الجميلة فرصا ذهبية للاختلاط بالناس وحتى مشاركتهم رقصة «الهوبي» وهي نظير «العرضة» السعودية إلا أنها تؤدَّى بالبنادق لا السيوف.
الشرق الأوسط اللندنية
الاربعـاء 24 ربيـع الاول 1428 هـ 11 ابريل 2007 العدد 10361
http://www.aawsat.com/details.asp?section=41&issueno=10361&article=414508&search=شبوب&state=true

المهرجانات الموسيقية الجزائرية.. كثرة العدد وفوضى التنظيم!


الجزائر: شبّوب أبو طالب
يصادف زوّار المدن الجزائرية مهرجاناتٍ موسيقية في كلّ مكان، هناك «مهرجان الرّاي» في مدينة وهران، «مهرجان تيمقاد» في مدينة باتنة، «ليالي الكازيف» في العاصمة و«مهرجان الموسيقى الأندلسية» بمدينة تلمسان... مهرجانات لمختلف الأذواق الموسيقية المحلية والدولية، مهرجانات بلا حصر، فما الحكاية؟ وكيف هو واقع المهرجانات الموسيقية الجزائرية؟ وماذا تخفي وراءها؟
للمهرجانات في الجزائر قصّة طويلة جدا، انطلقت بمسعى رسمي عام 1967لإنشاء مهرجان موسيقي ضخم باسم (مهرجان تيمقاد)، تطوّر من الصّبغة الوطنية إلى المتوسّطية إلى العالمية. وبمرور الوقت توالدت الهيئات الجزائرية التي ترعى المهرجانات والحفلات، وأخذت طابع عدم الاستقرار بناءً على التغيير الدّائم الذي شهدته التشريعات المختصّة من جهة،ومن جهة أخرى ذلك الصّراع الأيديولوجي الذي تشتهر به الجزائر بين (المعرّبين) و(المفرنسين)، والذي قاد إلى فقدان البوصلة باستمرار. فمثلاً يحدث أن يأتي (معرّب) لإدارة مهرجان موسيقي، فيكون التّداعي الطّبيعي أن تصبح غالبية المدعوّين من المشرق العربي، وتتلوّن اللّوحات بـ (الدبكة) و(العرضة) وغيرهما، فإذا آلت الإدارة في العام الذي يليه إلى (مفرنس)، فإنّه سيقصي كلّ هؤلاء ويدعو خوليو إيغليسياس وجيمي كليف!
بموازاة هذا عملت الوفرة البترولية على تشجيع مبادرات إقامة مهرجانات موسيقية من مختلف التصنيفات، محلية، وطنية، دولية، باعتبار الخزينة قادرة على السّداد، وتوفّر (مساحات شاغرة) داخل التشريعات المختصة يمكن لها فتح نافذة الربح الشخصي. وبمرور الوقت بدا أن أفضل إنجازات الإدارة الجزائرية هو كمّ ضخم للغاية من المهرجانات الموسيقية وتوابعها، تنظّمها هيئات رسمية وأهلية، دون فائدة ولا نتيجة.
من ترتيب الفوضى إلى الفوضى المرتّبة
* الى ما قبل العام الماضي، لم تكن التشريعات الجزائرية تتضمن شروطاً واضحة ومفصّلة لكيفيات الحصول على (الاعتماد الرّسمي) لإقامة مهرجان موسيقي، إذ كان يكفي استئجار قاعة أو مسرح في الهواء الطّلق لرفع لافتة (المهرجان الوطني....) أو (المهرجان الدّولي..)، والمشكلة أن هذه المهرجانات كثيرًا ما تحفل بما يسيئ إلى اللافتة (الوطنية) المرفوعة، وتحسب بالتّالي على البلد، لا على الهيئة المنظّمة... ويكفي كدليل على ذلك أن (وكالة إعلانية) نظّمت مهرجانًا موسيقيًا دوليًا، رغم أنّ ليس من مهامها فعل ذلك.
لإنهاء هذا الوضع بادرت وزارة الثقافة الجزائرية إلى إقرار تشريعات جديدة، نظّمت من خلالها العملية، وجاءت بالصّيغ القانونية الكفيلة بضمان تنظيم مقبول للمهرجانات الموسيقية، إلاّ أن تشريعاتها الجديدة لم تجد طريقها السريع إلى النّفاذ، بل تمّت مقاومتها بشدّة، إذ وقف ضدّها مسؤولون نافذون في التلفزيون الجزائري ومسؤولون نافذون في أكبر الوكالات الإعلامية الرّسمية، بل وشهد التلفزيون الرّسمي العام الماضي تغطية غير مسبوقة لمهرجان (ليالي البهجة)، الذي شارك فيه كثير من الفنّانين، مثل مصطفى قمر، شيرين وجدي، محمد منير. والغريب أن مسؤولي هذه الهيئة الرّسمية قد فعلوا هذا رغم يقينهم أن المهرجان غير قانوني، بل ودخل أثقل جهاز إعلامي جزائري على خطّ التنظيم والتّمويل أيضًا!
التشريعات الجديدة عانت أيضًا من (تفخيخ) داخلي منعها من النّفاذ، إذ أن مهرجاناً موسيقياً دولياً كـ (مهرجان تيمقاد) لا يمتلك هيئة تسيير مستقلة، بل ولا يعتمد مقاييس الرّبح والخسارة! وتصوّروا انه يعيش على موازنة سنوية من وزارة القطاع لا تُصَبُّ في رصيده إلا في آخر لحظة، قبل أسبوعين من انطلاقه، هكذا فإن القائمين عليه لن يجدوا فرصة التعاقد مع أي اسم محترم نظرًا لضيق الوقت، وسيضطرّون لـ (تمشية الأمور) بأي اسم وجدوه عاطلاً عن العمل!. أكثر من هذا فإن اعتماد المهرجان على موازنة رسمية قاد إلى لا مبالاته بالنّجاح الجماهيري، فحتّى لو غاب الجمهور فلن يتأثّر المهرجان، لأنّه لا يتغذّى على حصيلة بيع التذاكر، بل على الموازنة الرسّمية، وفي أحدى حفلاته لهذه السّنة كان عدد من اقتنى التذاكر هو 24 شخصًا من بين 10.000حضروا الحفل، ومع ذلك فلا احتجاج!
خطوات إلى الأمام
الخطوة التي اتّخذت قبل سنتين، عزّزت هذه السنة بقرارات مجلس الوزراء، الذي اعتمد، تسمية 6 مهرجانات وطنية، وأقرّ إفراد هيئة إدارية مستقلة (محافظة) لأبي المهرجانات الموسيقية الجزائرية ـ مهرجان تيمقاد ـ مع خصّه بميزانية مستقلة.
وجهاز رقابي يؤطّر عمله، وفق المقاييس الاقتصادية، يضاف إلى ذلك تعزيز العملية الرقابية على بقية المهرجانات التي جرى التّأكيد على أن الجهة الوحيدة الكافلة لإصدار (تصاريحها) هي وزارة الثقافة. وهكذا فقط جرى تحييد أصحاب النفوذ الذين عرقلوا طويلا التطوّر التسييري والأدائي لهذه التظاهرات الثقافية، ويبدو أن استحداث محافظات مختصة سيمكّن أيضًا من إنهاء الصّراع المحتدم بين (المعرّبين) و(المفرنسين) على تولي مهام الإدارة وما يرتبط بها من ريوع، إذ إن إخضاع الإدارة لضوابط العملية التسويقية ربحًا وخسارةً، سيقلّص مساحات النّفاذ إلى المال العام بلا حسيب ولا رقيب.
تبدو الجزائر في مرحلة صناعة تقاليد ثقافية محترمة، ويظهر أن أخطاءها السّابقة كانت سلة تجارب يمكن الاستفادة منها في صناعة غدٍ أحسن، وما اختيارها عاصمة لاحتضان (المؤتمر العربي الأوّل لمسيّري المهرجانات الموسيقية) إلّا دليل على تزكية عربية لمجهود يستحق الاحترام... ربما!
الاربعـاء 06 رجـب 1426 هـ 10 اغسطس 2005 العدد 9752

أزمة سكن حادة يعاني منها أبطال الروايات الجزائرية



الجزائر: شبّوب أبو طالب
آخر الروايات الصادرة، في الجزائر، ليس في اي واحدة منها طرف خيط يشدّها إلى البلد. وقد تبدو الكاتبات أكثر نزوعاً إلى الترحال من الكتاب.
السنة الماضية أفاق المشهد الثقافي الجزائري على «طفلة» في السابعة عشرة من العمر، روائية ذات لغة وخيال يصعب التصديق بأنهما غير مستعارين، الأمر الذي استوقف الروائي السوري نبيل سليمان في زيارته للجزائر، حيث أبى إلا أن يسجّل صدمته بالظاهرة التي تسمّى سارة حيدر. المشكلة أن رواية سارة حيدر التي تحمل اسم «زنادقة»، لا ترتبط بشكل أو بآخر ببلدها، بل تمتد من نيويورك إلى بغداد دون أن تتوقف في بلد المليون شهيد. والأغرب أن «الطفلة» عندما تتحدّث لا تأتي على ذكر بلدها ولو عفوًا، تحدّثت عن كل شيء إلا عن الجزائر، حتّى اسمها بدا غريبًا عن تشكيلة الأسماء والألقاب الجزائرية التي يندر فيها هذا اللقب المشرقي «حيدر». توقّع الكل أن ما قامت به سارة مرحلة وانتهت، لكن عندما سئلت «ما الذي تقرئينه؟»، تبين أن الأزمة مستمرة، إذ جاء جوابها «التاريخ التركي !».
في الأيّام السابقة طلعت علينا روائية جديدة، كانت قد شرعت في كتابة «ثلاثية» وعمرها 14 سنة وأنهتها في الثامنة عشرة. ثلاثية «ذاكرة الدم الأبيض»، صدمت المشهد الثقافي الجزائري، فكاتبتها فتاة تمتلك لغة سابقة لسنّها بكثير، ولا تتخلّف قدراتها الوصفية عن قدراتها اللغوية إذ أنّها تُطَوِّّعُ الجمل حتّى لَكَأَنَّها ريشة في يد رسّام أو قلب عاشق في يد حسناء مستبدة. لكن المشكلة ظهرت ثانيةً، فأحداث هذه الرواية تقع بين مدينتي «مانشيستر» و«ليفربول» البريطانيتين، وليس فيها اسم عربي واحد كي لا نقول اسما جزائريا. الفتاة تحدّثت في ندوة مشهودة عقدتها في «اتّحاد الكتّاب الجزائريّين»، قالت خلالها إنّها تعبت كثيرًا لتكتب عن العهد الفيكتوري وأحداثه في بريطانيا ـ الرواية تدور أحداثها أواخر القرن 17 الميلادي ـ وأنّها عادت لكل ما توفَّر من كتب ومراجع، بل وجنّدت الشبكة العنكبوتية لتحصل على خرائط تفصيلية عن «مانشيستر» و«ليفربول» كي يكون تموقعها الجغرافي سليمًا ولا تتوه عن مناجم الفحم ومصانع القطن. حين سئلت خديجة نمري عن مشروعها الجديد الذي تضع فيه كل عقلها ومشاعرها، بعد أن أضافت للأدب الانجليزي عملاً آخر، قالت إنّها تفكّر في رواية بوليسية، وأنّها شرعت في الاستعداد لذلك بـ«حملة قراءة» استنزفت كل ما خطّته الراحلة آجاتا كريستي.... وبعد لأيٍ قالت إن أحداث هذه الرواية البوليسية قد تكون جزائرية.
ولم يتوقّف الأمر عند صغار المشهد الثقافي، فالروائي والجامعي سفيان زدادقة الذي كان أوّل من تحدّث عن الظاهرة العسكرية الجزائرية وسمّاها باسمها، شرع أخيرًا في كتابة عملٍ جديد عن «الموريسكيّين» في اسبانيا ومثله فعل الكثيرون. طبعًا لم يغترب المشهد بكامله، فما زال الثقل الساحق تمثّله روايات تتغذّى من سنوات الجزائر العصيبة، لكن «الظاهرة الاغترابية» تفرض نفسها بقوّة، خصوصًا إذا استكملت الصورة بقراءة إحدى الفقرات التي كتبها أحد النقّاد الايطاليّين ممن أقاموا في الجزائر طويلاً، إذ قال «مشكلة الرواية الجزائرية هي البطل المثقّف»، أي أن معظم الروايات الجزائرية مؤخّرًا لا تسجّل يوميات شعبية بقدر ما تسجّل احباطات مثقّف وتترجم تقوقعًا فاشلاً ضمن منظومة المجتمع ككل، وإلا كيف نفسّر الظاهرة المحيرّة التي تجعل غالبية أبطال الروايات الجزائرية كتّابًا وروائيين. وهي قاعدة لم يشذّ عنها سوى قلّة، بينهم الروائي الشاب الخيّر شوّار وعبد الوهّاب بن منصور والروائي السينمائي عيسى شريّط الذي أخرج عملاً بعنوان «الجيفة» يحكي يوميات حيّ فقير تملؤه الموبقات. هل صارت الجزائر بلداً طارداً للذّات الراوية؟ أم أن الأمر برمّته صدفة غير مرتّبة؟ وهل ينعم الوطن بسلام يجعل من العثور على «مأساة» مناسبة لكتابة رواية عظيمة ضرباً من المستحيل؟
يخيل للقارئ ان أزمة السكن الحادة في الجزائر، لحقت بأبطال الروايات فهربوا.
الاربعـاء 22 صفـر 1427 هـ 22 مارس 2006 العدد 9976

من سرق مخطوطة ابن خلدون



شبوب أبوطالب
اجتمعوا ليكرّموه، فإذا به غير موجود! هكذا يمكن أن نلخّص النتيجة المدهشة التي انتهى إليها، الأسبوع الماضي، «ملتقى الجزائر الدولي حول ابن خلدون».
القصة أن رئاسة الجمهورية الجزائرية قد نظّمت ملتقى دولياً حول أعمال وفكر العلامة الراحل عبد الرحمن بن خلدون، دام ثلاثة أيام. وقد حضر الملتقى ما يزيد على 24 باحثا خلدونيا من 12 دولة، لكن المفارقة المدهشة أن الحاضرين قد صحوا على خبر فجائعي، مفاده أن نسخ المقدّمة، قديمها وجديدها، قد اختفت من البلد الذي كتبت به. صاحب البشارة السيّئة كان مدير مخبر البحث في المخطوطات بجامعة الجزائر مختار حسّاني، الذي قال وسط دهشة الحاضرين «لم تعثر فرق بحثنا على أي عمل من أعمال الراحل ابن خلدون، رغم امتداد إقامته بالجزائر، وكتابته للمقدمة على أرضنا»، ولم يكتف بذلك بل قال ان نتائج بحثه الشخصي قد ترجّح إحدى الفرضيتين المشهورتين حول مكان المقدمة، إذ تقول الفرضية الأولى بأن ابن خلدون قد أهدى النسخة الأصلية لـ(أبي حفص) سلطان تونس، وتقول الثانية بأن رواق المغاربة بجامع الأزهر يحتضن هذه النسخة، ولاحظ حساني بمرارة أن الأزهر لم يعلن أي تفاصيل بخصوص هذه القضية.
لكن مختار حساني لم يغفل الإشارة إلى فرضية ثالثة تقول بأن (المقدمة) الأصلية ما زالت في الجزائر، عطفا على ورودها ضمن الإجازات العلمية التي كانت تمنح لطلبة العلم بالمغرب الأوسط، حيث يعلن العالم المختص أنه يمنح إجازة التدريس للطالب الفلاني لثبوت تمكّنه من الاطلاع على محتوى مجموعة كتب ومتون. وقد عثرت فرق البحث الجزائرية على إجازات ذكرت فيها المقدّمة، وهكذا يستنتج أن النسخة الأصلية، أو على الأقل، ان بعضاً من بين أقدم النسخ قد تكون في الجزائر.
القضية خطيرة، إذ لا معنى لعدم وجود أي نسخة من نسخ المقدمة بمكان كتابتها سوى احتمالات جدّ مؤلمة، وهو الأمر الذي دفع بكثير من المختصين إلى تصوّر بضعة سيناريوهات لما يكون قد حدث.
يقول مسعود سيساني، أستاذ في علوم التاريخ، أن الفرضية الأقرب بالنسبة له هي أن تكون فرق البحث الفرنسية قد عثرت على المقدمة في عهد الاستعمار ومن ثمّ جرى نقلها إلى باريس، وحفظت في مكان غير معلن. وهو الأمر نفسه الذي جرى مع الكثير جداً من المحفوظات ذات القيمة التاريخية الكبيرة والتي حوتها خزانة «الداي حسين»، آخر حكّام الجزائر باسم السلطان العثماني. لكن الباحثة خيرة عمراني ترجّح أن يكون الأمر بعيداً عن ذلك، فبالنسبة لها «المقدّمة حلم الكثير من الباحثين عن الكنوز، ولا استبعد أن يكون أحدهم ـ جزائريا كان أو غربيا ـ قد صادفها، وفكّر ببيعها في سوق تهريب الآثار، ولن يمضي وقت طويل حتى تعلن دولة غربية أنها اقتنت المقدّمة من شخص ما، وتحتفظ بها كإرث قومي، كما تفعل المملكة البريطانية مع العديد من المراجع العربية التاريخية».
ويضيف عمر. م ـ أحد رجال الأمن العام ـ فرضية جدّ شخصية للموضوع، إذ يقول بأن «دلائل كثيرة تقول بأن فرق البحث الفرنسية، ربما، تكون قد عثرت على المقدمة، وأودعتها بمقر المكتبة الوطنية حالياً، لكن آثارها قد اختفت بعد استقلال الجزائر، ومن المرجّح أن بعض الموظّفين قد باعوها طمعاً بالمال، أو أن إدارة المكتبة الوطنية الجزائرية لم تعلن عن وجودها بمخازنها حفظا لها من خطر السرقة».
ويردّ السيد عمر. ب، على التساؤل الذي يستغرب عجز دولةٍ عن حماية وثيقة كهذه بالقول ان «سجّلات المكتبة الوطنية نفسها لا تذكر شيئا عن الموضوع، وبالتالي فلا إثبات على وجود المقدّمة بمخازنها إطلاقا، ولا دليل على عملية بيع أو سرقة، بل إن بعضهم يقول بأن الوثيقة موجودة في مقر المكتبة الوطنية الجزائرية، لكنّها اختفت مباشرة بعد زلزال 31 مايو (أيار) 2003 والذي نتج عنه انهيار جزئي لمخازن المخطوطات النادرة، ثم أغلقت ـ بغرض الترميم ـ لفترة غير قصيرة بالمرّة. وهي فترة تفتح الباب أمام كل احتمال».
وأمام سلسلة الاحتمالات التي يطرحها كل طرفٍ، يبدو أكيداً أن البلد الذي شهد ميلاد مقدّمة ابن خلدون بمغارة «أولاد سلامة» لا يمتلك أي نسخة من هذا العمل العلمي الذي يوصف بأنّه خطوة التأسيس الحقيقية لعلم الاجتماع بمعناه الحقيقي. وهي مأساة فعلية لأجيال من عشّاق ابن خلدون، ومن بينهم الرئيس الجزائري الذي قال بأن ابن خلدون «ابن هذه الأرض.. لا يلومنا في قول ذلك مشرقي ولا مغربي»، فمن سيكشف عن سارق المقدّمة؟
الشرق الأوسط٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦

«نجمة» الأديب كاتب ياسين اختيرت رمزا للجوال الجزائري


الجزائر: شبّوب أبو طالب
في الجزائر أطلقت إحدى شركات الجوّال خدماتها باسم «جازي»، وهو شعار نُحِتَ من اسم البلد مع بعض التحوير، وأطلقت شركة منتجات غذائية اسم «الصومام» ـ أشهر المؤتمرات العسكرية التي عقدتها قيادة ثورة التحرير الجزائرية ـ على منتج «لبن طبيعي»، كلّ هذا بدا مفهومًا.
لكن الظاهرة التي جذبت الانتباه، هي أن شركة اتّصالات اختارات اسم «نجمة» كشعار لها. و«نجمة» هذه هي أشهر أعمال الروائي الجزائري المرحوم كاتب ياسين. وهي المرّة الأولى التي يحمل فيها منتج تجاري اسم رواية، فخفخة غير معهودة في دول الشمال الإفريقي على الأقل. مسؤولو شركة الاتصالات قالوا إن الاختيار تمّ بناءً على سبر آراءٍ قامت به المؤسّسة، وكانت نتيجته أن الاسم الأكثر قبولاً هو «نجمة»، وعليه فليس لدى المسؤولين أي شيء غير عادي لتبريره. بل إنّهم يعتزون بكون كل رنّة هاتفٍ ستذكّر زبائنهم بالرائعة الروائية الخالدة، هكذا يكتسب «الجوّال» نفسه طعمًا آخر.
الجميل في ظاهرة الجوّال الذي يصادق الكتاب هو حياة الكاتب نفسه، فكاتب ياسين عاش حياةً صعبة شديدة التعقيد، وانتهى بائسًا وفقيرًا ومحطّماً، لكن اسم أفضل أعماله سيذكّر الكل به، وسيضمن له من الخلود ما لم يحلم به، ناهيك من إدخاله التاريخ من أوسع أبوابه، كأنه «سوبر ستار» صنع شهرته من قلمه، وظلّت هذه الشهرة فاعلة حتّى بعد رحيله.
يحكي ياسين للكاتب العراقي سيّار الجميل في كتابه «نسوة ورجال» قائلاً: «ولدت عام 1929 في منطقة القبائل وأنا أمازيغي. كانت طفولتي صعبة ولكنني كنت مشاغبا، وطفقت اكتب وأنا ابن عشر سنوات فرأي الآخرون عندي مخايل الذكاء واضحة لا تحتاج إلى أي تفسير.. مررت قبل أن ادرس في المدرسة الفرنسية بالكتاتيب التي تعلم القرآن، على عادة أترابي التقليديين. لم يشجعني احد على الكتابة إلا احتلال فرنسا للجزائر الذي جعلني أكون سياسيا في كل ما اكتبه وأقوله من النصوص النثرية وقصائد الشعر.. لقد ولدت «نجمة» من مجموعة إيحاءات وهواجس ورموز كنت ألملمها كل يوم على مدى عشر سنوات، أي منذ عام 1946 لتغدو رواية صدرت في باريس عام 1956، وأنا شاب جزائري في العشرينيات والثورة المسلحة قد اندلعت في كل البلاد.. ونجمة هو رمز لابنة العم التي كنت متعلقا بها إلى حد الجنون!». ويعلّق سيّار الجميل على الكلام بالقول «لم يكن اسمها نجمة، كان اسمها زليخة وكانت متزوجة وتكبره بعشر سنوات.. وعليه، فهذا الحب ضرب من المستحيل».
هذه هي ظروف ميلاد «نجمة» التي تروي قصّة حياة «لخضر» ذلك الذي يتساءل دوماً عن سبب حبّ الكل لـ«نجمة» رغم إدانتهم لها بذات الحين. وهو سيناريو تشبيهي لما كان يحدث مع الجزائر التي كانت «مستباحة» من طرف الفرنسيّين، ولكن الكلّ كان متعلّقًا بها.
هذا هو الوتر الذي تعزف عليه تفاصيل الرواية من أوّلها لآخرها، ولهذا السبب فإنّها قد منعت من التداول في فرنسا حتى استقلال الجزائر، كما منع عرضها كمسرحية في ذات البلد حتّى سنة 2003، اذ عرضت في إطار فعاليات سنة الجزائر الثقافية بفرنسا. مشكلة الفرنسيّين كانت أن «نجمة» تتألّق بشكل غير اعتيادي، ويضمن لها مستواها مكانةً متقدّمة للغاية في سجّل الأدب المكتوب بالفرنسية، إلا أنّها تبقى رغم كلّ ذلك عملاً يدين الاستعمار ويصمه إلى الأبد.
ياسين لم يقدّر له الاستمتاع بشهرته كثيرًا، إذ أن روح النضال بداخله تغلّبت على الفن. لقد أخرج الكثير من الأعمال إلى النور ففي الشعر أخرج «مناجيات» و«قصائد إلى الجزائر المضطهدة» و«مئة ألف عذراء» و«تحت صرخات الديكة». وفي المسرحية كتب «الجثة المحاصرة» و«دائرة القمع» و«غبار الذكاء» و«الأسلاف يزدادون ضراوة« و«المرأة المتوحشة» و«الرجل ذو الصنادل المطاطية» و«حرب الألفي عام» و«ملك المغرب»، وأضاف في الرواية عملاً بعنوان «المضلع النجم». كل هذا لم يشفع للرجل الذي كان يسارياً متطرّفًا، وظلّ دائم الاصطدام بالشعور العام والمؤسّسات الرسمية في ذات الحين، لم يتقن المهادنة ولا عرف الحلول الوسط، وانتهت به حياته مشرّدًا مسكينًا وفقيرًا بمدينة «غرونوبل» الفرنسية يوم 29 أكتوبر 1989. وكم هي المفارقة عجيبة، أن يموت المبدع فقيرًا لكن آخرين لا صلة لهم بالإبداع يجنون الذّهب والألماس من اسمه!
الشرق الأوسط اللندنية
الاربعـاء 24 محـرم 1427 هـ 22 فبراير 2006 العدد 9948