السبت، 12 يوليو 2008

في ذكرى غسان كنفاني




الدوحة - شبّوب أبوطالب

تمر علينا هذه الأيام الذكرى السادسة والثلاثون لاستشهاد المناضل الفلسطيني غسان كنفاني الذي اشتعل بسرعة وصخب خلال عمره القصير وأودع الأدب العربي روائع يندر مثلها، وذهب مسرعا مخلّفا حرائق لم تنطفئ لغاية اللحظة.يقف العالم العربي كل سنة أمام اليوم الثامن من الشهر السابع ليتذكر واحدا من أبنائه الذين قدموا له الكثير، واستطاعوا رغم قصر العمر أن يصنعوا لأنفسهم وبلدانهم الكثير من المجد والأدب الجميل، وعبروا بألسن الناس وعواطفهم فكانوا خير ممثل لهم وإن لم يحوزا مناصب أو يحصدوا مكاسب، ولعل غسان كنفاني واحد من القلة التي اختطّت هذا الدرب وسارت عليه، ومثله أبو القاسم الشابي والزعيم المصري مصطفى كامل.. الخ.ولد غسان كنفاني في منطقة عكا التاريخية الفلسطينية، ومنها تم طرده وأهله عام 1948 إلى سوريا -بفعل الاحتلال الإسرائيلي- ثم إلى لبنان حيث تجنّس واشتغل في مجلة «الحرية» التابعة لحركة القوميين العرب، ثم رأس تحرير جريدة «المحرر» ومن ثم «الأنوار»، ولاحقا عمل في جريدة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين «الهدف» التي رأس تحريرها أيضا.بدأ شغفه بالأدب باكرا، ويبدو أنه كان من طينة أولئك الذين تضيق بموهبتهم مقررات الدراسة، إذ إنه انتسب لدراسة الأدب العربي ثم توقف عن الذهاب للجامعة متفرغا للعمل السياسي في الجبهة الشعبية، ناهيك عن انشغاله الأدبي الكبير، حيث تمكّن في فترة وجيزة من أن يخرج إلى النور روايات «رجال في الشمس» و «ما تبقى لكم» و «أم سعد» و «عائد إلى حيفا»، أما المجموعات القصصية فأخرج منها «موت سرير رقم 12» و «أرض البرتقال الحزين» و «عن الرجال والبنادق» و «عالم ليس لنا»، بالإضافة إلى دراسته «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال» 1948-1968»، كما أصدرت بعض أعماله المخطوطة بعد وفاته كـ «الشيء الآخر» و «العاشق، الأعمى والأطرش، برقوق نيسان» و»القنديل الصغير».. وهذا الكم الكبير من الأعمال المنشورة مضافا إليه عبء رئاسة تحرير جريدة يومية وكذا العبء الحزبي والتنظيري والعمل في الميدان العام كان كفيلا بأن يكسر ظهر جبل، فما بالك إن كان صاحبه مصابا بداء السكري ومعتل الصحة ويعاني حساسية صدرية دائمة. لقد تمكن كنفاني من عمل كل تلك المهام في وقت واحد واستطاع قبل ذلك وبعده أن يتزوج وينجب ويعيش حياة أسرية واجتماعية حافلة.ولعل نقطة الضعف الوحيدة للرجل هي حياته الذاتية، فهذا الرجل المسلح خارجيا بكم هائل من الطاقة والثقافة والثقة بالنفس والروح الثورية كان هشا جدا من الداخل، ولعل شعوره المرير بالغربة واليتم قد جعل منه كائنا يبحث عن أي طريق للعطف والحنان وأي تعامل يشعره بإنسانيته، وهذا الذي دفعه للزواج بـ «آني» الأوروبية التي يصفها بالقول: «في ذات الصباح الذي قررت أن أتزوجها كنت على وشك الاتفاق مع امرأة نصف ثرية ونصف جميلة ونصف (تحبني) ونصف شابة على أن نعيش معا. كانت تلك المرأة نصف الطريق إلى السقوط وأردت أن أجعلها محطتي كي أقبل الرحلة كلها فيما بعد إلى قرار القاع السحيق والمنسي.. وجاءت «آني» ذلك اليوم في واحدة من الومضات التي تبرق في ضمير كل إنسان على ظهر هذه الأرض... وكانت فرارا»، وطبعا كان هذا النوع من الزواج غريبا بل وربما غبيا، فالرجل لم يعرف من «آني» إلا أنها أوروبية مهتمة بالقضية الفلسطينية، التقاها في مؤتمر للكتاب فتزوجها بدافع من الشفقة على النفس، وقبِلته بدافع من الشفقة على الأيتام، فكانت حياتهما معا مزيجا من الغربة والحيرة والامتنان، أو كما قال هو ذاته في رسالة وجّهها لأخته: «لا، لا إن الحب شيء وعلاقتي بها شيء آخر.. فحين عجزت عن ردم الهوة بيننا، ردمتها بطفلين، تخليت عن حياتي السابقة في سبيلها. كانت وما زالت امرأة رائعة، ربما الشيء الوحيد في هذا الكون الذي أستطيع برضا لا حدود له أن أقدم لها حياتي إذا ما تعرضت لخطر الغياب»، ولكن هذا الزواج القائم على مشاعر مبهمة سرعان ما اصطدم بكارثة تسمى غادة السمان، الفتاة اللبنانية الجميلة التي كانت تخطو خطواتها المثيرة في عالم الأدب العربي، وقد تبناها غسان كنفاني بقوة، كرجل وكأديب، إلا أن المرأة التي يبدو أنها صدمت بهشاشة الرجل قد قررت التعامل معه بشيء غير قليل من اللامبالاة والاحتقار، رغم أنها هامت به لبعض الوقت، وهكذا تحول الأديب السامق القامة إلى مجرد رقم في قائمة طويلة تمثل عشاق غادة السمان، وتحولت هي من فتاة حالمة بلقائه إلى أنثى متجبرة تعشق إذلاله، ولعل مراجعة أولى رسائله إليها ستكشف طبيعة العلاقة بينهما إذ يقول غسان: «أعلم أن كثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش..وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين.. ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيّل إليّ الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك»، ويعني هذا أن الأديبة اللبنانية قد بادلت الرجل الغرام وربما أشياء أخرى لتعود لاحقا فتلغيه بعد أن حصدت من ورائه الشهرة وقدمها إلى المحافل الأدبية، فجازته شر الجزاء، والغريب أن الرجل الثائر لم يتمسك برجولته ويهجرها بل ظل يطاردها برسائله وعواطفه المشبوبة فيقول مثلا: «تعرفين أنني أتعذب، وأنني لا أعرف ماذا أريد، تعرفين أنني أغار وأحترق وأشتهي وأتعذب. تعرفين أنني حائر وأنني غارق في ألف شوكة برية، تعرفين ورغم ذلك فأنت فوق ذلك كله تحولينني أحيانا إلى مجرد تافه آخر»، ويقول في أخرى: «إنني على عتبة جنون»، وفي ثالثة: «يخيّل لي أحيانًا أنها أمام الناس تحاول إذلالي»، وفي رابعة: «أحيانا أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع!»، وفي خامسة: «تُرى ما الذي يُذكّر هذه الإنسانة بي إلاّ الذل».وقد كانت الهدية الكبرى من غادة إلى غسان كنفاني بعد وفاته في 8/7/1972 هي نشرها للرسائل التي كتبها لها عام 1992، كنوع من «إخراج الخاص إلى العام» على طريقتها، وأثار نشر تلك الرسائل عاصفة لم تنتهِ، ورأى فيها الكثيرون محاولة لتشويه سمعة الرجل، إلا أن غادة تمسكت برأيها معلنة أن هذه الرسائل تُخرج كنفاني من دائرة التقديس الزائف الذي يضفيه بعض العرب على عظمائهم، وأنها تضيء جانبا مهما من حياته، وطالبت من يملك الرسائل التي أرسلتها له بنشرها حيث إنها لا تعرف عن مكانها شيئا! وزاد السخرية أن غادة التي أهانت الرجل -على حد قوله- في حياته قد قالت بعد وفاته: «لا أستطيع الادعاء -دون كذب- أن غسان كان أحَب رجالي إلى قلبي كامرأة.. كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف بهم -بعد الموت- وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي.. ولكن بالتأكيد كان غسان أحد الأنقياء القلائل بينهم»، ومثل هذا الكلام يشكّل ضربة موجعة لهذا الرمز العربي الكبير.لقد كان غسان كنفاني كائنا مجهزا بكل أسلحة النضال السياسي والثقافي إلا أنه بذات الحين كائن قد حوّلته المنافي والاغتراب والظروف العائلية الصعبة إلى متعطش للعطف والحنان ومكبّل اليد والقلب أمام من يوحي له بالثقة والفرادة، وقد كانت السمان جزءاً من هذه العقدة التي أحاطت به، ولم تفعل غادة بالرجل شيئا سوى أنها استعملته حيا وميتا، واستفادت منه في الحالتين، ولم يفعل غسان شيئا سوى أنه ألقى حجارة بيته في غير موضعها!يقول بعض الذين درسوا حياة الأديبين الكبيرين إنه من الظلم الحكم على غادة السمان بقسوة، ولكنّ الحكم على غسان بالغباء لأنه تواصلَ معها لن يكون قسوة، والحكم عليه بسوء الحظ لن يكون إلا شفقة على ذلك الذي أعلن ذات يوم كأنه يرثي نفسه «هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل.. من داخل نفوسهم»، وقد كان أحدهم وربما أكبرهم.


العرب القطرية ـ 2008-07-12

ليست هناك تعليقات: