السبت، 19 يوليو 2008

في شعر الأسر والسجن والتحرير

الدوحة ـ شبّوب أبوطالب
جاء تحرير الأسرى بالأمس في لبنان خاتمة لمآسٍ طويلة رسمت آثارها في قلوب وعقول عشرات الأحياء والأموات الذين «استضافتهم» زنازين و «مقابر الأرقام» في كيان العدو، وهو يحيي في التاريخ العربي جزءا جميلا من ذاكرته الشعرية، وهي تلك الذاكرة الخصبة التي أثراها عشرات الشعراء الذين أسروا وهم يقاتلون على ظهور خيلهم أو اختطفوا من بين أهلهم وأولادهم وذاقوا مرارة الحرمان وقسوة السجان.ومن بين القصص الجميلة التي يذكرها التاريخ قصة الصحابي خبيب بن عدي وهو فارس من فرسان قبيلة الأوس، وبطل من أبطال غزوة بدر، كما كان عضوا في «القوات الخاصة» للرسول الأكرم (ص)، ومن بين المهام التي أوكلت إليه رفقة أعضاء فرقته كانت مهمة قادها عاصم بن ثابت، وتحدد واجبها بالحصول على معلومات حول الاستعدادات الحربية التي تجريها قريش، وضمت الفرقة 10 من الفرسان الأبطال، ولعل التفاصيل تظهر صعوبة المهمة إذ اكتشفت «سرية الاستطلاع» واستشهد غالبية أفرادها، أما خبيب بن عدي فقد أخذ أسيرا، ولأسره قصة فهو قاتل الحارث بن عامر بن نوفل، أحد فرسان قريش، ولذا فقد قرر أهله الانتقام، وحبس الفارس لدى قريش لفترة ريثما تمت صفقة بيعه لـ «ذوي الدم»، ومن ثمَّ قتله، ولعل الرجل قد كتب الكثير خلال فترة أسره لكن التاريخ لم يحفظ لنا إلا بضعة أبيات قالها أثناء «تحضيره» لعملية الإعدام، إذ ظنّ سجّانوه أنه سيخاف القتل، فما كان منه إلا أن ارتجل: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أي جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِيوَذَلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شَلْوٍ ممَزَّعِوكانت تلك خاتمة المطاف لجندي شاعر وفارس مهاب الجانب، خاتمة جسدت جلد الجندي المسلم حين الأسر وعدم خوفه من الموت، ومثلها كانت الأبيات التي قالها أبومحجن الثقفي، وهو شاعر كبير وفارس بارز من قبيلة «ثقيف»، وله صولات كثيرة في قراع المسلمين أيام كان مشركا، و «مناكفات» طريفة مع عمر بن الخطاب أثناء حصار الطائف، وقد عرف الرجل بشرب الخمر وحبها، ولم يردعه عن حبها أن يجلد في كل مرة وتمس كرامته أمام الناس، وبلغ من حبه للخمر أنه اصطحبها معه أثناء معركة القادسية التي قادها خال رسول الله (ص) سعد بن أبي وقاص، لينتهز فرصة «المباحثات» التمهيدية بين سعد والفرس وينزوي منفردا بزجاجته، لكن «مخابرات» سعد علمت بالخمر وجاءت بالرجل، فأمر بأن يحبس، وابتدأت المعركة واشتدّ الأمر على المسلمين، واستشهد الكثيرون وكان أبومحجن يغلي في أسره وهو يرى المعركة تسير إلى غير صالح إخوانه، بينما لا يستطيع أن يفعل شيئا بسبب أسره، وهنا تفتّحت قريحته الشعرية عن أبيات غاية في الجمالكفى حَزَناً أن تُطعَنَ الخيلُ بالقَنا وأُصبِحَ مَشدوداً عليَّ وَثَاقياإذا قُمتَ عَنّاني الحديدُ وأُغلِقَت مَصارعُ من دوني تُصِمُّ المُنادياوقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ فأصبحتُ منهم واحداً لا أخا ليافإن مُتُّ كانت حاجةً قد قَضيتُها وخَلّفتُ سَعداً وحدَه والأمانياوقد شَفّ جسمي أنني كلّ شارقٍ أعالجُ كبلاً مُصمَتاً قد بَرَانيافللّه درِّي يوم أُترَكُ مُوثَقاً وتذهلُ عني أُسرتي ورجالياحبيساً عن الحرب العَوَان وقد بَدت وإعمالُ غيري يوم ذاك العوالياوأرسلت هذه الأبيات لزوجة سعد فأمرت بالإفراج عنه وإعطائه فرس سعد فأثخن في الفرس قتلا، ورجعت المعركة للمسلمين بعد خسارة، ولعل الجميل أن الأسر هنا قد ترك بصمة رائعة على نفسية الأسير، إذ حوّله من شارب خمر لا يتورّع إلى مدمن بطولات لا ينحني. وفي الشعر العربي روائع كثيرة من شعر الأسر، كرائعة علي بن الجهم الذي عرف السجن لدواعٍ سياسية، وكتب قصيدته الشهيرة «قالت: حبست. فقلت: ليس بضائري/ حبسي، وأي مهنّد لا يُغمدُ/ أَو مَا رأيتِ الليثَ يألفُ غِيلَة/ كِبراً، وأوباش الشباب تَردّدُ/ والشمس لولا أنها محجوبةُ/ عن ناظريك، لما أضاءَ الفرقدُ/ غيرُ الليالي بادئات عوّدٌ/ والمالُ عاريةٌ، يفاد، وينفدُ/ والحبسُ ما لم تغشَه لدنيّةٍ/ شنعاءَ، نعمُ المنزِلُ المتورّدُ/ بيت يجدد للكريم كرامة/ ويزأر فيه، ولا يزور ويحفد»، أما السجين العربي الأشهر فهو بلا شك أبوفراس الحمداني، الرجل الذي أذاق دولة الروم الويل، ما دعاهم للسرور كثيرا بأسره، ويبدو أن السرور كان مشتركا إذ إن ابن عمه سيف الدولة الحمداني سُرَّ هو الآخر لأسره، وتماطل في تحريره، فكان أسره بركة على الشعر العربي، إذ أنجب الشاعر بعضا من أجمل القصائد الخالدة، كقصيدته الذائعة «أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر/أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر؟ / نعم أنا مشتاق وعنديَ لوعةٌ / ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ / إذا الليل أضواني بسطتُ يدَ الهوى / وأذللتُ دمعاً من خلائقهِ الكِبْرُ»وبعيدا عنها فقد مر الأسير الشاعر بكثير من الحالات الإنسانية التي صوّرها، ومن بينها مرض والدته ورغبته في رؤيتها، حيث قال حينها بأنه لولا خوفه عليها لما همّه السجن «لولا العجوز بمنبجٍ / ما خفت أسباب المنيّهْ / ولكان لي عمّا سألت / من فدا نفسا أبيّهْ»، وقصيدته العتابية لابن عمه «مصابي جليل والعزاء جميلُ/ وظني بأنّ الله سوف يديلُ/ جراح وأسر واشتياقٌ وغربةٌ/ أهمّكَ؟ إنّي بعدها لحمولُ»، وقصيدته التشاؤمية التي ضمّنها خوفها من عدم تحريره: «بمن يثق الإنسان فيما نواه؟ / ومن أين للحرّ الكريم صحاب؟»، وإذا كان أبومحجن قد خرج من السجن بطلا فإن أبوفراس قد خرج منه ناقما وشنّ حربا انفصالية على دولة ابن عمه انتهت إلى قتله!وفي التاريخ الحديث قصص جميلة أيضا، فقد أسر العثمانيون أحد زعماء الجزيرة العربية، الشيخ راكان بن حثلين، وقادوه للقسطنطينية، ولم يفكّ أسره لولا مشاركته الحاسمة في الحرب الروسية العثمانية، حيث أطلق سراحه العام 1877 م، فخرج الرجل من السجن وخرجت معه قصائده التي نظمها هنالك وبينها قصيدة باللغة العامية ويقول فيها: «أخيل يا حمزه سنا نوض بارق / يفري من الظلما حناديس سورها / على ديرتي رفرف لها مرهش النشا / وتقفاه من دهم السحايب حشودها / فيا الله يا المطلوب يا قايد الرجا / يا عالم نفسي رداها وجودها / إنك توفقها على الحق والهدى / ما دام خضراً ما بعد هاف عودها / وأبدل لها عسر الليالي بيسرها / وحل المشاكل فل عنها عقودها»، ومن الطريف أن قصة الشيخ راكان هي بالتمام قصة أبومحجن، فهل كانت صدفة أم أن الرواة لعبوا دورهم في الموضوع؟!ومن قصائد السجن أيضا، ما كتبه شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء، الذي قدّم قصيدة خالدة يصف فيها توجّه الأسير إلى المقصلة، ويخلّد فيها شجاعة وثبات أحد هؤلاء الأسرى وهو الشهيد أحمد زبانة الذي كان أول مناضل جزائري ينفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة، فكان يمشي إليها وهو يكبّر ويعلن سعادته بأنه الرقم 1، فكانت رائعة مفدي على قدر رائعة شجاعته ومنها «قام يختال كالمسيح وئيدا / يتهادي نشوان يتلو النشيد / باسم الثغر كالملاك أو كالطفل / يستقبل النهار الجديد / شامخا أنفه جلالا وتيها رافعا رأسه يناجي الخلودا / حالما كالكليم كلمة المجد / فشد الحبال يبغي الصعودا / وتسامي كالروح في ليلة القدر / سلاما يشع في الكون عيدا / وامتطى مذبح البطولة معراجا / ووافي السماء يرجو المزيدا / وتعالي مثل المؤذن يتلو / كلمات الهدى ويدعو الرقودا / صرخة ترجف العوالم منها / ونداء مضى يهز الجدودا / اشنقوني فلست أخشى حبالا / واصلبوني فلست أخشى حديدا / وامتثل سافرا محياك جلادي / ولا تلتثم فلست حقودا / وامض يا موت في ما أنت قاض / أنا راض إن عاش شعبي سعيدا / أنا إن مت (فالجزائر) تحيا / حرة مستقيلة لن تبيدا».وفي الشعر الفلسطيني درر «سجنية» فاتنة الروعة والجمال، وبينها ما كتبه الشهيد الفلسطيني راشد حسن والتي يمكن تسميتها بقصيدة «مرحبا بالسجن»، فهذا الرجل وإن لم يسجن فقد كان يتوق لذلك، وكتب ذات يوم «قالت أخاف عليك السجن؟ / قلت لها: من أجل شعبي ظلام السجن يلتحف / لو يقصرون الذي في السجن من غرف / على اللصوص لهدت نفسها الغرف / لكن لها أمل أن يستضاف بها / حر فيزهر في جنباتها الشرف / قالت: حلمت بطفل لا أريد له / أباً سجيناً فقلت الحلم يعتكف / أتحلمين بطفل قلب والده / عبد؟ أعيذك من عبد له خلف»، أما الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي،الزعيم السابق لحركة حماس الفلسطينية، فقد لا يعرف كثيرون أنه شاعر، ولكن عبقريته الشعرية قد تجلّت بقوة خلال فترة سجنه ومن بين قصائده الجميلة واحدة بعنوان «حديث النفس» وفيها يحاكم نفسه ويدعوها للتجلّد «يا هذه يهديك ربك فارجعي/ القدس تصرخ تستغيثك فاسمعي / والجنب مني بات يجفو مضجعي / فالموت خير من حياة الخنع» إلى أن قال «أنا لن أبيت منكسا للألمع / وعلى الزناد يظل دوما إصبعي / ولئن كرهت البذل نفسي تصفعي / من كل خوار ومحتال دعي / وإذا بذلت الغالي مجدا تصنعي»، وله أيضا قصيدة جميلة للغاية كتبها في حفيدته «أسماء» التي حال بينه وبين تقبيلها جدار السجن وإن تكحلت عينه برؤيتها «رأيتُ النورَ يضحك في ضُحاها / ويسطع في دجى الدنيا سناها / وطيبٌ من أريج المسك تزكو / به النسمات بعضٌ من شذاها / وتبسُطُ زهرة الحنون خدًّا / عسى تُقْرِيه تقْبيلا شِفاها / وأنَّى للمضاجعِ من هُجوعٍ / إذِ الأغلالُ تسلبها كَراها / يعِزُّ النومُ تهجره جفوني/ وعينُ الصبِّ تَسهَدُ من شجاها / ولولا ثقْلَةُ القيد امتطينا / لـ «أسما» كلَّ صعبٍ كي نراها».هذه بعض من نتف أدب عزيز على قلب التاريخ العربي، أدب السجن والأسر والتحرير، والذي قدم عبر قرون طويلة دررا بالغة الجمال لكل قراء العربية.
العرب القطرية -7/7/2008

ليست هناك تعليقات: