الثلاثاء، 24 يونيو 2008

لغات العالم.. الثروة التي تنقرض بصمت


الدوحة - شبوب أبوطالب
أعلنت اليونسكو منذ فترة أن سنة 2008 ستكون مخصصة للعناية بموضوع لغات العالم، وجاء الإعلان ليدق جرس الإنذار بأن أكثر من 6000 لغة عالمية في طريقها إلى الزوال الحتمي، ولعل ما كتبه الأستاذ جيروم شاهين قد يضع الأمور في نصابها الطبيعي، إذ قال شاهين: «قد يصاب المرء بالذهول عندما يعلم أن لغة في العالم تموت كل أسبوعين، وأن نصف اللغات الحية مهددة بالزوال مع نهاية القرن الـ21، وأن 60 لغة في العالم الآن لا ينطق بها سوى شخص واحد، والعدد في تناقص مستمر، إذ مات اثنان منهم في شهر فبراير الفائت!». ولأن الصورة قد تكون كاريكاتيرية قليلا فإن تدعيمها بشيء من الإحصائيات قد يوضح الموضوع، وفي هذا الإطار يضيف شاهين: «في العالم اليوم 6912 لغة حية معروفة، هناك %5 فقط من تلك اللغات يستخدمها %94 من سكان العالم، بينما %95 من اللغات يستخدمها %6 فقط من السكان»! وإذ ألقينا نظرة على توزيع اللغات في العالم، فإن إحصائية صادرة عن المعهد الفرنسي للغات بعنوان «ما بعد الإثنيات.ط13» تفصل الموضوع بشكل مناسب، فهناك بالضبط 6703 لغات عبر العالم تتوزع بشكل غير متساو، ففي أوروبا هناك 49 دولة وبالمقابل 225 لغة، أي بمعدل 4.5 لغة في كل دولة و4.3 مليون مستعملا لكل لغة، وفي أميركا هناك 46 دولة و1000 لغة، بمعدل 21.7 لغة لكل لبلد و770000 مستعملا لكل لغة، وفي إفريقيا هناك 56 دولة و2011 لغة بمعدل 35.9 لغة لكل بلد، و360517 مستعملا لكل لغة، وفي آسيا هناك 2.5 مليار نسمة و46 بلدا و2165 لغة، أي 47 لغة لكل بلد و1.1 مليون مستعمل لكل لغة، أما في أوقيانوسيا فهناك 30 مليون ساكنا و27 دولة و1302 لغة أي بمعدل 48.2 لغة لكل بلد و23 مستعملا لكل لغة.وبمراجعة الإحصائيات الواردة أعلاه يتضح أن الثقل الأكبر للغات القديمة في العالم يتركز في كل من آسيا ثم إفريقيا ثم أوقيانوسيا، وإن جاز التعبير فهذه المجموعات الجغرافية البشرية الثلاث هي ذاكرة العالم، إذ تركزت الحضارات القديمة في هذه المناطق، وكذلك جرت الحروب وطور الإنسان الزراعة والكتابة وأسس الممالك ورعى الصناعات بمختلف مراحلها التطورية البدائية، فهناك يرتسم سجل العالم الشفوي المحكي والمكتوب، ما يعني أن زوال لغات هذه المناطق يعني بشكل أو بآخر أن العالم سيفقد ذاكرته بشكل شبه رسمي، ذلك أن بعضا من أهم ذكريات ومحفوظات العالم لم يكتبها التاريخ ولم تتم عملية «رقمنتها» أي تحويلها لذاكرة رقمية، بما يعني أن موت مستعمليها أو تخليهم الطوعي عن استعمالها سيهدد جزءا من «دماغ العالم» بالتلاشي، وليس بعيدا أن نجد أنفسنا بعد عقود قليلة في عالم موحد يتكلم لغة مشتركة، وبذات الحين لغة لا ماضي لها ولا تنفع بأي شيء حيال محاولة استرجاع ما حصل في الزمن الأبعد.المشكلة الإضافية هنا هي تحديد اللغات الآيلة للزوال، وإذا اعتمدنا على ذات الدراسة السابقة فإن التصنيف الأقرب للمنطق قد يكون الحكم على مستقبل اللغة من خلال عدد المتكلمين بها، وفي هذا الإطار تقول الدراسة بأن هناك 57 دولة في العالم تعتمد الإنجليزية بشكل رسمي، و37 دولة تعتمد الفرنسية و23 العربية و23 الإسبانية و8 البرتغالية و5 الألمانية، و4 لكل من اللغات المالاوية والهولندية والإيطالية، وثلاث دول للغتين الصينية والصربية، ودولتين للغات: الصينية، والكورية، والتاميلية، والتركية، والسواحلية، والمولدافية، واليونانية، والسويدية، والدانماركية، ولغة الكيريول (لغة هايتي والسيشل)، ويعطي هذا التصنيف انطباعا بأن الإنجليزية في طريقها لاكتساح العالم، رغم مقاومة الفرنسية، لأن التداعي الطبيعي للأشياء أن تفرض لغة العلم والمال نفسها، وما زالت الإنجليزية لغة الجهتين، أما التهديد الحقيقي لها فلن يأتي سوى من اللغتين الصينية والهندية، أولاهما لأن الصين ستغدو مركزا اقتصاديا دوليا متقدما جدا في حال حافظ الاقتصاد الصيني على وتيرة نموه العالية، أما ثانيهما فإن التقدم التكنولوجي الهندي الكبير (خصوصا في ميدان البرمجيات) قد يفضي إلى حذف الإنجليزية أو تضييق حضورها بشكل واسع، وإذا كان الهنود لحد الآن غير مصرين على استعمال لغتهم في برامجهم، فليس بعيدا أن يلتقطوا الفطرة ويرغموا العالم كله على مفاوضتهم من موقع المهزوم.أما مصير اللغة العربية فلعلنا نقرؤه في إحصائية صادرة عن هيئة اليونسكو، وبالضبط «فريق بحث اللغات المهددة» الذي عكف طيلة سنتين (من 2001 إلى 2003) على إعداد بحث علمي جدير بالقراءة والتمعن يتناول الأسس الموضوعية التي ينبغي أن تبنى عليها النظرة تجاه مستقبل اللغات في العالم، ودق أجراس الخطر باكرا محذرا «التعددية اللغوية العالمية مهددة»، إذ إن %50 من لغات العالم تفقد قراءها بصورة تدريجية متسارعة، و%90 من مفردات اللغات القديمة هي في طريقها للاستبدال بمفردات غريبة عن جسم اللغة الأم، ناهيك من العجز الكبير الذي تظهره منظومات التعليم وفشلها المتلاحق في إدارة العملية التعليمية بما يكفل تواصل الطفل مع لغته الأم.وتضع الإحصائية أكثر من مقياس لوضعية أي لغة، فالمقياس العمري يعتمد على الهرم العمري للناطقين باللغة، فكلما اقترب الهرم من المربع كان الوضع جيدا، وكلما كانت الفئات العمرية التي تتحدث اللغة المعنية محصورة في فترة محددة فنحن أمام خطر داهم يهدد اللغة، أما المقياس السكاني فهو يتحدث عن نسبة الناطقين باللغة إلى مجموع السكان، فكلما زادت نسبة المتحدثين باللغة الأصلية في بلد ما فذلك دليل على صحتها وإمكان استمرارها، وكلما نقصت كانت الخطورة أشد، وهنا يمكن استحضار الحالة القطرية، فغالبية السكان لا تتحدث العربية، وحتى الذين يحاولون الحديث بها لا يحتكمون إلى لغة موحدة، كما أن جزءهم الأكبر نحت من لغته الأصلية (الجنوب-آسيوية عادة)، ومن العربية لغة هجينة لا تفيد ولا تنفع، بما يعني أن الوضع اللغوي في قطر يعاني كارثة غير مسبوقة يمكن إضافتها إلى «بدعة» الإنجليزية التي يمكن لها أن تفتك بالجيل القطري المقبل مستريحة البال مطمئنة الخاطر.. مقاييس كثيرة أخرى تضعها الدراسة، وبينها مقياس الاستعمال الوظيفي، ومقياس التفاعل مع وسائل التطور الإعلامي والعلمي، ومقياس الارتباط الاجتماعي باللغة.. إلخ.وفي المحصلة، فإن لغة كاللغة العربية التي ينحصر متكلموها أحيانا (في نيجيريا مثلا) وتنحصر هي في أفواه متكلميها أحيانا أخرى (الدول العربية بأسرها) على موعد مع اندثار صامت وهادئ، لكنه سيقضي على ذاكرة الأجيال المقبلة وينشئ مجموعة كائنات مشوهة الشخصي عديمة الانتماء، بما يفرض تحركا عاجلا وعميقا وعمليا للحفاظ على وجودنا في العالم الذي سيكون «وحيد قرن» لغويا في غضون عقود قليلة!
العرب القطرية
2008-06-24

ليست هناك تعليقات: