الثلاثاء، 17 يونيو 2008

«سيكولوجية المال».. كتاب للمرضى لا للبخلاء!





الدوحة - شبّوب أبوطالب يأتي هذا الكتاب في وقت يعصف فيه حكم المال بالعالم أجمعه، ويصوغ العقائد الاجتماعية والعسكرية ويدمر دولا وينشئ أخرى هلامية لا رباط بين مكوناتها سوى الاستفادات المالية ولا مشروع مجتمع لها سوى المزيد من النهب... يحدث هذا في جميع أنحاء العالم من دارفور إلى حكومة المنطقة الخضراء في بغداد التي يقول وزراؤها أنفسهم إنها تشهد حالات غير مسبوقة من الفساد المالي.يبحث الكتاب في الدوافع النفسية التي تحرك الأنماط المتعددة لسلوك الإنسان تجاه المال، والطرق المختلفة التي يسلكها البشر في تعاطيهم مع هذه القضية الجوهرية، وحسب المؤلف فإن سيجموند فرويد كان النفساني الأول الذي انتبه لمحاولة تحليل السلوك المالي بشكل نفساني، وربط ذلك بفترة التنشئة الأولى للطفل، إذ ربط فرويد بين فكرة التحكم بالمال وفكرة التحكم بـ «البراز»، إذ يأتي التعزيز الإيجابي للطفل الذي يتحكم بنفسه من طرف الوالدين علامة على قدرته على تحمل المسؤولية وسعادتهم به، بينما يأتي التعزيز السلبي دلالة على خيبة الوالدين في طفلهما، وهنا فإن فكرة «التحكم» و «الضبط» تنشأ لدى الطفل، وتتجلى حقا في تصرفاته المالية، إذ يكون تصرف الطفل المتحكم معتدلا تجاه المال، وفي المقابل يعاني الطفل غير المتحكم مَرَضِياً تجاه المال.يحلل الكتاب أنماطا عديدة من المتعاملين بالمال من البخلاء إلى المستغلين إلى المحتالين، وبعض الفقرات التي يخطها طريفة للغاية، وتصف بشكل دقيق الأفكار التي تجول في خاطر بعض هذه النوعيات من البشر، إذ يصف من يسميه «المدخّر القهري» بالقول «هو الفرد المدفوع إجباريا من دون طواعية إلى اكتناز المال، فترى الواحد منهم يملك المال الكثير والكثير لكنه يقاسي ويعاني شتى ضروب الحرمان.. لكن قوة قهرية تحثه دائما أبداً على عدم التفريط في أقل القليل من ماله.. ينظرون للمال على أنه المصدر الوحيد للشعور بالأمن»، وهذا وصف جيد للغاية للمرضى باكتناز المال، وهؤلاء ليسوا طينة من المدخرين العاديين ولا من البخلاء ولا حتى من بخلاء الجاحظ ولكنهم صنف آخر من البشر يمكن الالتقاء به في كل مكان، وهؤلاء «يعانون» أيما معاناة لو تحتم عليهم أن ينفقوا فلسا.ويقدم الكاتب تفسيرا جميلا للرشوة، إذ يقول إن دافعها لا ينحصر فقط في الحاجة إلى المال، ولا في صعوبة الحصول عليه، ولا في تدني الأجر الذي تقدمه الشركات لموظفيها، وكلها تبريرات قوية، ولكن المنشأ الثاني للرشوة هو عدم الإحساس بأخلاقيات العمل، وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى أن معظم المرتشين هم شخصيات أثبتت الدراسات أنهم يمكن أن يحوزوا المقادير التي حصلوا عليها من الرشوة بطرق مشروعة وبقليل من العمل، لكنهم لا يفعلون ذلك ويفضلون بدلا من العمل الحصول على المال مقابل إنجاز خدمات غير مشروعة.من النماذج التي يشير إليها الكاتب، بتحليل ممتع، ما يسميه «مشتري الحب» وهؤلاء طينة من البشر تحسب أنها يمكن أن تشتري احترام الناس لها بالمال، ويقرن في هذا السياق بين «البغاء» و «الصدقة» في لفتة نادرة، فزبائن البضاعة اللاأخلاقية يبحثون في بعض نواحي سلوكهم عن مقادير معينة من الحب الأنثوي، ونظرا لعجزهم عن تحصيله بالطريقة الطبيعية فإنهم يتجهون نحو شرائه بالمال، على طريقة نزار قباني « بدراهمي.../لا بالحديث الناعم/حطمت عزتك المنيعة كلها بدراهمي/ وبما حملت من النفائس والحرير الحالم/ فأطعتني/ وتبعتني/ كالقطة العمياء، مؤمنة بكل مزاعمي»! والغريب أن الكاتب يضع ضمن هذا الإطار فكرة «الصدقة» ولعل هذا الطرح قد يبدو غريبا للوهلة الأولى، لكننا في حال تذكرنا النماذج العديدة التي يتحدث عنها الإعلام من طائلي الثراء الذين يقدمون بعضا من المال، قلّ أو كثُرَ، لبعض من الفقراء ولكنهم لا يفعلون ذلك دون أن يكونوا مدججين بأساطيل جبارة من الكاميرات ووسائل الإعلام، وهو نموذج سائد وقد تحدث عنه القرآن الكريم في قوله تعالى «لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ « (الآية 188. آل عمران)... وهنا قد تصبح «الصدقة» باعتبارها فعلا إنسانيا نبيلا في مثل وقاحة فعل البغاء. وللكاتب من هذه الوجهة ألف دليل على صوابية رؤيته.ويذكر الكاتب ضمن النماذج التي اختارها نموذجا جيدا للإنسان المحتال، وهو وصف - للطرافة - يصدق على أنواع عديدة من المحتالين بالمال أو بغيره، فيقول الكاتب «والمحتال إذ يعيش حالة من التضخيم لذاته، فما ذلك إلا لكي يهرب من الشعور بالقلق والإحساس بالنقص والدونية، فكثير من المحتالين لا ينتظرون من الآخرين سوى التمجيد والنفاق والرياء، وربما يدرك بعضهم أن الآخرين يقولون عنهم ما ليس فيهم، لكنهم - مع ذلك - يشعرون بالسعادة ويرتاحون إلى المداهنة ويستعذبون النفاق، لأن ذواتهم تعيش بالنفاق وتعتمد بشدة على آراء الآخرين فيهم».. الطريف أن القارئ لهذا المقطع سوف يتذكر آلافا من النماذج التي مرت بها من سياسيين ورجال أعمال وحكام مستبدين أو حتى من ناس عاديين يتسمون بهذه الخصال جميعها، فكأن الكاتب لم يعرف محتالي المال بل محتالي العمل والحب والأخوة وغيرها من المشاعر النبيلة.يتحدث الكتاب بشكل أقرب للوصفية، ويختتم صفحاته بنموذج اختباري قد يجد فيه الطفل أو الإنسان الراشد «زمرته المالية»، وإن كان من نقطة قد تسجل عليه فهي ميله لطرح القضية المالية في شكلها الاجتماعي وعدم التعمق في تحليلها بشكل قد يقود لأعمق النوازع البشرية التي تجعل السلوك المالي مؤشرا عمليا على الصحة النفسية للشخص، وحاكما في تحديد خياراته الاجتماعية.. تبقى فقط الإشارة إلى أن الكتاب في صيغته الحالية قد يكون جيدا للغاية لفئة المرضى بالمال، وليس البخلاء، فإن كان البخل ممارسة قد تنشأ من خلال محصلة عوامل اجتماعية ونفسية متداخلة فإن مرض المال ليس إلا فيروسا يصعب جدا الفكاك منه، ولعل قراءة التوصيفات اللطيفة التي يوردها الكتاب قد تكون نوعا من العلاج الموضعي على الأقل!
نشر في العرب القطرية/16/6/2008

ليست هناك تعليقات: