الاثنين، 7 أبريل 2008

عندما تكون «ضيف الله» عاشقة في الستين من العمر!

الجزائر: شبّوب أبو طالب
لم ينته الحبّ بعد، ولم ينقرض مجانينه، وإذا كانت ليلى قد احتكرت تاريخ العشق النسائي العربي بشعرها، فإن «ضيف الله» الجزائرية قد طاولتها تضحيةً وفداءً.. وكانت أكثر منها صمتاً، وأقلّ حكمة!
دعونا نبدأ من البداية.. ربّما سمع بعضكم في الآونة الأخيرة أغنية النّجم الأسمر محمّد منير «البارح كان في عمري عشرين»، وربّما عرف بعضكم أنّها لمطرب جزائري يسمّى الحاج الهاشمي قروابي، لكن الذي الذي قد لا يعرفه كثيرٌ منكم هو قصّة هذا المطرب النّجم، المطرب الموهوب، الصّوت الشّجي، العاشق الكبير.. الإنسان الظاهرة.
ولد الهاشمي قروابي في السادس من يناير 1938 بحي «الـمُرادية» بأعالي العاصمة الجزائرية، ونشأ في حيّ «بيلكور» الشعبي، أحد أقدم أحياء العاصمة الجزائرية وأكثرها ثورةً وعنفوانًا، فكان الهاشمي عطفًا على ذلك فتًى وسيمًا، في محيّاه نعومة أبناء الأحياء الراقية، وتمرّد الجزائري وغضبه المشهورين.
لعب كرة القدم، ومارس التمثيل الدرامي والكوميدي، ثم بدا له أن يجرّب حظّه في الغناء، فكان التقرّب من شيوخ الطرب الشعبي «تسمية الأسلوب الغنائي الشائع بالعاصمة الجزائرية»، مثل، الحاج محمّد العنقاء والحاج مريزق والحاج حسيسن. هؤلاء الذين تعوّدوا أسلوباً مّا في التعامل، وطريقة معيّنة في الحياة، نظروا باستغراب لهذا الفتى المدلّل الذي لا يكترث كثيرًا بشيء غير موهبته ووسامته، ويرفض أن يلتزم (قواعد السلوك الفني) السائدة في عصره، والتي تعتمد على استرضاء كبار أهل الطرب وعدم التحرّك إلا في حمايتهم. الهاشمي رفض الانصياع، غامر وتحدّى ولم تنته الستينات حتّى كان له أسلوبه الشخصي في الغناء، والذي قام على تحرير أغاني «الشعبي» من لغة القرون الوسطى، وتقريبه من الطرب المشرقي وحتّى الغربي وتبسيطه ليفهمه كلّ الناس. جزائر الستينات وبداية السبعينات كانت مشتّتة بين الولاء لشيوخ الطرب «الشعبي» القديم، والإعجاب بالخرجات التجديدية للهاشمي قروابي. ورغم المعارضة الشرسة التي لقيها الفتي الأنيق، فإن الكلّ كانوا إذا اختلوا بأنفسهم غنّوا «البارح كان في عمري عشرين» و«يا الورقة» و«يوم الجمعة خرجوا لرْيَام». وكي نتصوّر مدى التجديد الذي أدخله الهاشمي على الأغنية «الشعبية»، فلا بدّ نعرف بأن كلماتها قبله كانت تتحدّث عن السلاطين والجواري. يعني عن زمن مضى، وكان غريبًا أن تتحدّث عن «الهاتف» و«الرسائل الغرامية». كانت ثورةً فجّرت البيت بمن فيه، وخلقت للثّائر ـ الذي غدا رمزًا ـ مئات الآلاف من الخصوم ومئات الآلاف من المعجبين والمعجبات خصوصًا.
لكن الفتى الهاشمي كان في وادٍ آخر، لم يكن ليلتفت إلى ما يثيره مروره من ضجيج وأغانيه من حرائق، لأنّه كان عاشقًا. نعم الحقيقة كذلك، فالشاب الذي تتقاطرت عليه المعجبات بأكثر ممّا تتقاطر أمطار الأمازون، كان يبكي إذا خلا بنفسه. يبكي للشخصية التي لا يعرفها أحدٌ، والتي بقيت سرًّا كما بقيت تفاصيل حكايتهما مجهولةً، لكن الذي يبدو من تفاصيلها أن ارتباطهما قد استحال لسبب من الأسباب، فذهبت الحبيبة لزوجٍ آخر وذهب هو لقدره.
كان الوقت مغرباً، حين هزّ سمع الحاج الهاشمي طرق حيّي على باب بيته بالعاصمة الجزائرية، وجاء صوته الرنّان والشجي: من؟ لا جواب. ثم: من؟ وبعدا لا جواب. ثم: من؟ متنمّرة وغاضبة. ليأتي الجواب من ذات لثامٍ «ضيف الله!» (وهي العبارة التي يقولها ابن السبيل في الجزائر، عندما يطرق بيتًا راجيًا مأوى أو زاداً). اغروقت عينا الحاج بالدمع، حُبِسَ صوتُهُ، وارتّجت كل ذرّة من ذرّات جسده الذي ناء بحمل السنين. لقد كانت (هي) الطارقة، الحبيبة التي صار عمرها ستين سنة. عجوزٌ تتلفّع بلثامها، يقودها قلبها إلى بيت مجنونها، بعد أن توفي زوجها أو أذنت لها زوجة الحاج. وكانت «ضيف الله» القصيدة التي أبكت نساء العاصمة الجزائرية، قصيدة الحب السبعيني، اللقاء الذي ينتظر عقودًا وعقودًا والقلب الذي يبدّل ملابسه ومشاربه لا مشاعره. هذه هي قصّة الرجل الذي غنّى له محمّد منير «البارح كان في عمري عشرين». لا أحد يعرف من هي «ضيف الله» ولا أحد يهتم بذلك فعلاً، فالمهم هو الرائعة الشعرية التي يبكي فيها قلبٌ طوى العمر ولم يبق إلا منعطف، يبكي فرحا عند لقائه بالحبيبة. يبكي لأن الزمن قد حنّ أخيرًا. هل قال أحدٌ مّا بأن زوج ليلى قد كان يسمح لقيس برؤيتها ثقة منه في عفافهما؟ هل قال أحد مّا أن «دي كابريو» قد آثر حياة حبيبته على حياته؟ هل قال أحدٌ مّا إن دولة الحبّ قد دالت. في الجزائر حدث ما هو أجمل وأرقّ من كلّ ذلك، وشخوصه ما زالوا أحياء. ولكن لم تسقط السماء ولا زلزلت الأرض، ولا تغيّر تاريخ الأدب العربي!
الشرق الأوسط ـ الاربعـاء 08 جمـادى الثانى 1427 هـ 5 يوليو 2006 العدد 10081

ليست هناك تعليقات: