الاثنين، 7 أبريل 2008

عزلة الجزائر الثقافية لن يغفرها الجيل الطالع

الجزائر: شبوب بوطالب
قيل أن أصعب سؤال في برنامج «من سيربح المليون» كان التالي: «أذكر أربعة أدباء جزائريين».. لا أحد ظفر بالجواب، لا متنافس، ولا صديق، ولا جمهور... والسبب أنه لا يوجد غير ثلاثة! قد تحمل هذه الطّرفة بعض السخرية، لكنها تصور واقعاً أليماً، فقلما يوجد أديب جزائري فرض نفسه على الساحة العربية. أو إن شئنا الدقة، لا يوجد أي اسم جزائري أتيح له فرض نفسه على الساحة العربية، فما هي الخلفيات التي تؤسس لهذه الوضعية؟
ربما يتصور البعض ـ لأسباب كثيرة ـ أنه لا يوجد وسط ثقافي في الجزائر، والواقع أن زعماً مثل هذا يضحك الكثيرين، ولنورد بعض الأرقام: فحسب آخر أرقام مديرية الجمارك يستهلك الجزائريون حوالي 2.56 مليار دينار من الكتب، أي حوالي 25.600.000 دولار أميركي، هذا عن الكتب المستوردة، أما الإنتاج المحلي فهو بالتقريب مماثل للإنتاج المستورد، يقوم عليه أكثر من مائة ناشر، ناهيك عن المنشورات المطبوعة بدعم رسمي، عبر (صندوق دعم الإبداع) وهو حساب عام يوجه رصيده لدعم إبداعات الشباب. وقد انتج في حوالي السنتين ما يقارب مائتي عمل إبداعي جديد، بين رواية وقصة وديوان شعري، غير هذا تملك المديريات الثقافية في كثير من المحافظات، شبيهاً محلياً لهذا الصندوق، يمارس ذات المهمة. وإذا أخذنا بظاهر الأرقام، فهنالك حوالي عشرين رواية جديدة سنوياً في الجزائر، يضاف لها نفس الرقم أو يزيد قليلاً من دواوين الشعر، أما الكتب البحثية والجامعية، فهنالك العشرات تنتج سنوياً، أيضاً في أكثر من 36 مدينة تحوي مؤسسات جامعية، ولكل جامعة موازنة خاصة بالنشاط الثقافي، وكلها تصرف ميزانياتها إلى آخر مليم، وتظهر رغبةً عارمة في التوسع (النشطوي) الثقافي. وفي الجزائر أيضاً حوالي 48 مديرية ولائية للثقافة، وأكثر من 500 منشأة، ما بين دور للشباب ومراكز ثقافية محلية، كلها ممولة من المال العام، دون نسيان حوالي 300 مليون دولار خصصت في إطار مشروع الموازنة العامة للدولة كمصاريف ثقافية، ومعنى هذا كله أن الإنتاج الثقافي غير معدوم في الجزائر، فما الذي يعيق تسويقه خارجياً؟ وما الذي يمنع تسويق أصحابه معه؟
تضاريس ثقافية وعرة
* خارطة الأدب الجزائري تتسم بتثليث أبعادها، فاللغات التي يكتب بها الجزائريون هي العربية، الفرنسية، ثم اللهجة الأمازيغية، وإذا كان انتشار النوع الأول قابلاً للفهم، فإن النوعين الآخرين لا يجدان نفس اليسر في الانتشار، فإذا عرفنا بأن عيون الأدب الجزائري قد كتبت باللغة الفرنسية، ثم عرفنا بأن غالبية القراء العرب يفضلون الانجليزية عليها، فسيكون أول مفاتيح غياب الأدب الجزائري بين أيدينا.
ومن المؤسف أن عملية الترجمة غير ناشطة في هذا السياق، هكذا فإن مأساة احتجاب الأدب الجزائري قد راحت تتواصل دونما نهاية، مما حرم القارئ العربي من روائع نالت التشجيع والثناء الأوروبي والأميركي والدولي أيضاً، روائع شيخ الروائيين الجزائريين المرحوم مالك حداد كـ (سَأََهَبُكِ غزالة) و(الشقاء في خطر)، وروائع الراحل مولود فرعون كـ(ابن الفقير)، وروائع الراحل محمد ديب كـ (ثلاثية الدار الكبيرة)، وروائع الروائية العالمية آسيا جبار كـ (الفانتازيا)...الخ.
يقول الراحل مالك حداد: «اللغة الفرنسية منفاي»، ولعل عبارته تلخص واحداً من سجون المتن الأدبي في الجزائر، ذلك أن جيل الآباء المؤسسين للأدب الجزائري قد زاول تعليمه في الغالب بالفرنسية، ومن ثم ما كان متاحاً له العودة إلى مقاعد الدرس لتعلم لغته الأم، فخسر جمهوره، ثم راح يخسر باستمرار على مدى عقود متواصلة مزيداً من القراء الجزائريين وغيرهم، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نسبة معتبرة من الشباب الجزائري هم من غير المفرنسين، والمشكلة تتكرر مع الأعمال الجديدة المكتوبة بلغة المستعمر السابق، فالرواية الأخيرة ـ مثلاً ـ لرشيد بوجدرة، والحاملة لعنوان (الجنائز) حقّقت نجاحاً مشهوداً في فرنسا، لكن القارئ الجزائري والعربي لم يطلع عليها، وربما لم يسمع بها، وأعمال الروائي يسمينة خضرة ـ اسم نسائي مستعار للروائي والعسكري السابق محمد مولسهول ـ قد حازت إعجاباً ضخماً في أوروبا حيث نشرت بأكثر من لغة، بينما لم يشرع الجزائريون في قراءتها إلا أخيراً، وخذ قياساً على ذلك الكثير من الأدباء والأعمال، ويمكن القول بدون تحفّظ بأن الكُتاب باللغة الفرنسية لا يضعون ضمن قائمة اهتماماتهم ـ لا القريبة ولا البعيدة ـ طموح الانتشار عربياً، ذلك أن جمهورهم أوروبي بحت، وهم يحققون النجاح تلو النجاح معه، فلماذا يلتفتون لغيره؟
ويتورط الأدب الجزائري المعرب في مشكلة أعمق، ذلك أنه من جهة يعاني هاجس حصارٍ غير معلن، فالإدارة الثقافية الجزائرية مفرنسة في غالبها، وبالتالي فهي غبر متحمسة للتعاطي معه، وليس وارداً في حساباتها أن تسهل له الانتشار مشرقياً، هذا لجهة الصعوبة الداخلية، أما خارجياً فإن المأساة هي أن بعض المنطق لا يدعو أي ناشر مشرقي لمساعدة كاتبٍ لا تساعده دولته! كما أن الناشرين في الجزائر لا يفضلون طباعة الإبداعات المكتوبة بالعربية، لانخفاض عائدها المادي بالمقارنة مع المكتوبة بالفرنسية. فالطّبقة الأكثر قدرة على شراء الكتب هي الطبقة الراقية ذات التوجه الفرنسي، بينما تبقى الطبقات الوسطى (طلبة، موظفون صغار، حرفيون...) العروبية التوجه، ذات قدرة محدودة على اقتناء الكتاب لغلاء ثمنه، والنتيجة هي إحباط طباعة الكتاب المعرب داخلياً، والتسبب في تعطيله خارجياً!
ويدخر الكتاب الجزائري مفاجأة سارة، هي الإبداع المكتوب باللهجة الأمازيغية، وهو إبداع يشقّ طريقه بثبات إلى الواجهة، وفي عوالمه مجموعة رائعة من الكتاب ذوي الموهبة الأكيدة، لكن عوامل كثيرة قد تقعد به عن الانتشار عربياً، أولها حداثته، حيث ان الأمازيغية لم تتم تسميتها كلغة رسمية إلا قبل فترة قصيرة، وعليه فهي لم تراكم بعد رصيداً إبداعياً ـ مكتوباً ـ يفي بطموحها. ثاني عوامل التقييد هو حاجز الترجمة، فلا أحد يطّلع على إبداع مكتوب بلغة مغرقة في المحلية، ويأتي الإشكال الثالث عبر بوابة الخصوصية التي تميز الإبداع الأمازيغي، حيث يتسم بمنسوب ضخم من الايدولوجيا، ما يجعل تفاعل القارئ العادي معه مرتبطاً بمدى إيمانه المسبق بقناعات التيار السياسي الذي يمثله. هذه هي خارطة التضاريس الثقافية بالجزائر، وجزءاً من مشاكل الانتشار التي تتخبط فيها انطلاقاً من القاعدة المحلية، ولكن السؤال الموالي هو: ما رأي الكتاب الجزائريين في القضية؟ وما مدى مساهمة المشرق العربي في العزلة الأدبية الجزائرية؟
كيف ينظرون للقضية:
* قسم من المبدعين الشباب يعلقون بالقول «... ولكن لا أعمالنا سافرت ولا نحن أيضاً»! أما الروائي إبراهيم سعدي فيرى الأمر من زاوية أخرى، إذ ألح في حديث لـ (البيان) الإماراتية على أن «الأدب الجزائري يشهد حاليا نوعا من الانقسام، مما يجعله يبدو للعالم بصورة جزئية. فالمشرق العربي يظن أن ما لدينا من أدباء وانتاج إبداعي يقتصر فقط على الأدباء المعربين، وما أنتج باللغة العربية. وهو ما يفضي بهم إلى تصور هذا الإنتاج محدودا، لأنهم لا يأخذون بعين الاعتبار الزخم الآخر الذي يتشكل مما أنتجه الأدباء الجزائريون الذين يكتبون بالفرنسية مثل مالك حداد وكاتب ياسين ونور الدين سعدي ومحمد ديب ورشيد بوجدرة ورشيد ميموني وياسمينة خضرة وغيرهم...». في كلام إبراهيم سعدي كثير من المنطق، إذ من المؤسف أن المشرق العربي قد ترجم كبرى الروايات العالمية، وقعد عن ترجمة روايات عربية الروح وإن لم تكن عربية القلم، ففي حين ترجمت أعمال غابريال غارسيا ماركيز، باولو كويليو، وسومرست موم... وعشرات غيرهم، ما زالت الأعمال الجزائرية عالقة رغم أنها تحصد النجاح في الغرب، ورغم أن ترجمتها إلى العربية ليست صفقة خاسرة بأي حال من الأحوال... من المؤسف أيضاً انه بعد أربعين عاما من استقلال الجزائر فكر الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب في ترجمة ثلاثة أعمال روائية جزائرية إلى العربية! بينما يشهد التاريخ أنه بين من ترجم عيون الأدب العربي إلى اللغات الغربية برع جزائريون ليس آخرهم الراحل ـ من فترة قصيرة ـ جمال الدين بن الشيخ، مترجم ألف ليلة وليلة ونزار قباني و...الخ.
هل هذه كل جناية المشرق؟ يرى الجزائريون غير ذلك، ففي حين تمتلئ الساحة الجزائرية بالمبدعين من كل الأعمار والأجناس، تصر القنوات الإعلامية العربية على إدارة الظهر لهم، وتوكيل اسمين أو ثلاثة للحديث باسمهم في كل حال وتحت أي ظرف، وتلك ممارسة لا يغتفرها للمشرق أي من فاعلي الوسط الثقافي الشاب بالجزائر، لأنها تجني على جيل كامل، فماذا تخسر كبريات القنوات الإعلامية العربية لو أوكلت إلى بعض مبعوثيها الخاصين مهمة استكشاف الساحة الثقافية الجزائرية بدلاً من استكشاف المقابر الجماعية وترديد شعار (من يقتل من؟).
(التقصير المتبادل) ربما كان السيد الجاني في قطيعة الأدب الجزائري بشقيقه العربي، ولعل التفاتة جادة من الطّرفين ستكون الكفيل بحل الإشكال.
الشرق الأوسط ـ

ليست هناك تعليقات: