الاثنين، 7 أبريل 2008

حينما يدار الصراع الطبقي بطريقة مطبخية في رواية «الجيفة»

الجزائر: شبوب أبو طالب
عيسى شريط، روائي وسينمائي جزائري، وفي روايته الجديدة «الجيفة» يجعل العلاقة بين الفتاة الثرية والشاب المعدم مدخلاً للتوغل في تراث مطبخي جزائري
اقل ما يقال فيه انه محتدم بالمعارك الطبقية. فبين الأغنياء والفقراء ثمة حوار يستحق أن يصغى إليه.
هل يتجلى صراع الطبقات في كتب لينين وماركس فقط، وهل لا بدّ من إراقة الدم كي يحدث هذا الذي لا بدّ منه. في الجزائر صراع طبقي آخر، لكنّ ساحته هي المائدة، وأبطاله هم «المْصَوَّر» و«الشخشوخة» و«المَله»!
القصّة طريفة، ولم ينتبه لها أحدٌ حتّى جاء الروائي والسينمائي الجزائري عيسى شريّط فأزاح عنها الستار في أحدث رواياته الحاملة لعنوان «الجيفة».
عيسى قال إنّ المعضلة الرئيسية، التي يدور حولها عمله الجديد هي صراع الطبقات في المجتمع الجزائري، وذلك يتجلى عبر اللقاء المضطرب بين فتاة من أبناء الذوات ومتسوّل نصف مجنون ينقذها من الاختطاف، ومن ثمّ تنطلق به في رحلة عبر العالم المخملي. المسكين يظنّ أن ما يشاهده وما يتناوله في بيتها هو سلع «من خارج المجرّة»، وتغلفه دهشة لا حدّ لها، لكن البطلة تحاول أن تبرهن له بأن حياة الأثرياء هي مجرد «إعادة صباغة» أو «دبلجة» لحياة الفقراء، ولكن بكلفة أعلى! هكذا هو تعريف الثراء لدى البطلة. ولكي تعطيه الدليل المنطقي، فإنها تعود به إلى لحظة ميلاد المطبخ الجزائري.
ففي القديم كان أثرياء الجزائريين يتفاخرون على الفقراء بشيّ اللحم خارج البيت، وأمام أعين الجميع، ثم يدعونهم للوجبة الدسمة التي يرافقها عادة خبز مصنوع بطريقة جدّ خاصة، يتسم بكثافة دسمه ودقة سمكه (بالإضافة طبعا إلى ما يرافق ذلك من توابل). ويبدو أن هذا الطقس الموغل في التباهي أثار الطبقات الدنيا، فكان لا بدّ من ردّ مطبخي بليغ. هكذا ولدت وجبة «الشخشوخة»، التي تعد ردّ فعل على الوجبة الأولى المسمّاة «المْصَوَّر». إذ تصنع الشخشوخة من خبر لا تهم دقته ولا مدّة طهيه، بل يؤخذ كعجينة صغيرة ثم يلقى على صفيحة مستديرة لينضج بعد أقلّ من خمس دقائق، ثم يقطع في لامبالاة ظاهرة، بينما تطهى كمّية صغيرة من اللحم في حساء خضار محلي بدون تكلفة تقريبا، وبعدها يلقى الخبز في الحساء ويخلط المجموع!
وجبة الشخشوخة، التي تعد إرثا جزائريا خالصا، تترجم وجها آخر لصراع الطبقات، ولو على حافة المطبخ، وتترجم حاجة الطبقات الدنيا إلى واجهة (مطبخية) ترفع الرأس في الصراع مع الطبقات الأعلى. وإذا كان العربي القديم يكرم ضيفه بـأن (يذبح) له، فإن الجزائري الفقير يكرم ضيفه بأن (يشخشخ) له! هكذا طوّر الفقير أداة أخرى للصراع الطبقي، لم تكن على هذا القدر من الأهمية سابقا.
الحكاية نفسها تحدث في الجنوب الجزائري، مع قبائل «الطوارق». فهذه المجموعة البشرية التي تقضي أغلب أوقاتها في الصحارى، طالما عانت في المفاخرات مع نظرائها من ساكني المدن، ولعل الطريف أن طبقة الحضر كثيرا ما اختصرت مفاخرها في «الفرن الطيني»، الذي اعتُبِر في حينه رمزا لانتصار (الآلة) على الطبيعة (حجارة الأثافي). ويبدو أن عقدة الفرن قد ظلت حاجزا بين الفصيلتين البشريتين، خصوصا حين يبرز أحد أعيان طبقة الحضر ما تنتجه آلاتهم السحرية ـ الأفران ـ من خبزٍ عالي النوعية، ولم ينتهي أمر المأساة إلا لحظة سقطت تمرةٌ عفنة على دماغ امرأة طارقية، فولدت «المله»، وهي عبارة عن خبز من الحجم الكبير والثخين، يعدّ في ثوان، حيث يجمّع خليط من قطع اللحم والخضار المحلي ثم يغلف بعجينة! وهذه هي العجيبة الأولى، أمّا العجيبة الثانية، فهي أن الطهو لا يحتاج إلى فرن. فبحكم نوعية التربة التي تتواجد ببعض مناطق جنوب الجزائر، التي تحتفظ بالحرارة طويلا جدا، فإن السكان المحليين قد اهتدوا إلى فكرة حفر حفرة متوسطة وملئها جمرا، مما يرفع درجة حرارتها عاليا، ثم يردم الجمر بطبقة كثيفة من الرمل ويوضع الخبز فوقه، ويُحْثَى المزيد من الرمل السّاخن (المستخرج من الحفرة) فوقها! والنتيجة هي فرن طبيعي مائة بالمائة، يستطيع إنضاج قطعة خبز واحدة، قد يزيد وزنها على كيلوغرام في أقل من نصف ساعة...طبعا عندما تشاهد كيف تصنع فإنك ترفض أن تأكلها، لكنّ بعد أن تشاهد كيفية تنظيفها بالماء ـ فهي سميكة الحاشية ـ وتتذوق طعمها، فإنك سوف لن تنساه بكل تأكيد.
السخرية هنا مزدوجة، فـ(الطارقي) القادم من طبقة شبه معدمة يهين الرجل الحضري عبر إنهاء أسطورة الآلة، وكذا تحضير وجبة أفضل وألذ.
يقول الأديب والسينمائي عيسى شريّط إن ملاحظته لهذا التاريخ، ولسخرية الرجل الفقير من الغني قد وضعته أمام طريقة أخرى لإدارة صراع الطبقات بطريقة مطبخية، وعرّت آليات أخرى للمقاومة وللتفاعل، غير الطريقة الدموية التي يصرّ كارل ماركس عليها أسلوبا وحيدا لتصفية الحساب الطبقي، التي تمنح القارئ فكرة وحيدة، هي أن أفراد المجتمع الأوروبي يعيشون تفككا عارما، وإذن فمن المنطقي أن يحمل بعضهم راية الثورة الدموية ضدّ بعض، بينما يبقى أفراد المجتمعين الأمازيغي والعربي متعلقين بوحدة ثابتة، قد تفقد صلابتها، قد تتعرّى ولكنها لا تتمزق. هكذا فإن الصراع الطبقي يحسم بصورة أخرى غير الصورة الدموية، قصد الإبقاء على اللحمة المجتمعية. ولعل هذه النتيجة هي التي دفعت شريّط لإنهاء روايته «الجيفة» بموعد غرامي بين البطلة الثرية والبطل القادم من أقصى أقاصي، خطّ ما تحت الفقر!
الشرق الأوسط - الاربعـاء 13 ربيـع الاول 1427 هـ 12 ابريل 2006 العدد 9997

ليست هناك تعليقات: