الاثنين، 7 أبريل 2008

مشروع المصالحة الجزائرية يعيد المثقفين إلى عين المعمعة

الجزائر: شبوب أبو طالب
تعيش الجزائر حدثا استثنائيا، بعد العفو الشامل الذي أطلقه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عن مجموع الضالعين في الأزمة الدموية التي عصفت بالبلاد، بمن فيهم أولئك الذين ثبت تورطهم في عمليات اغتيال واغتصاب. سيناريو يحاكي كثيرا ما حصل في لبنان وجنوب أفريقيا، فما رأي الطبقة المثقفة في ما يحصل، وهل يمكن لقانون أن يمحو جراح الماضي، ويمسح أثر الدم؟ خاصة أن بعض هؤلاء المثقفين هم ممن حملوا السلاح أو تعرضوا لرصاص الغدر، وبالتالي فالمثقف الجزائري كان منذ البدء جزءاً من المعركة.
يمس مشروع العفو الشامل الطبقة المثقفة الجزائرية في الصميم، ذلك أن بعض هؤلاء، كانوا قد رفعوا السلاح في وجه توقيف المسار الانتخابي بداية التسعينات، وثمة بينهم من سقط برصاص الإرهابيين الغادر أو تعرض لمحاولات اغتيال. وإذا كانت المجموعة الأولى معنية بالاستفادة من إمكانية العفو والعودة إلى الاشتغال بالحياة المدنية بصورة طبيعية، فإن المجموعة الثانية معنية بمدى إمكانية تجاوز جرح الماضي الذي لا تزال تحمل بعض آثاره حية في أجسادهم.
يبلغ الجرح أقصاه حين نقرأ إحدى مواد المرسوم الرئاسي التي تحرم العودة (كتابة أو مشافهة) إلى إثارة أو فتح حيثيات الأزمة الدموية بشكل يغذي الحقد أو يحرض على التفرقة الأهلية. وهي مادة جسدت الحساسية البالغة لدى المشرع الجزائري من إمكانية العودة للخلف، ولو بكتابة صحافية، إلا أن كثيرين يرون فيها تخطيطا لكتابة التاريخ بواسطة قانون. وهو شيء غير معقول ولا مقبول.
«لشرق الأوسط» سألت المثفين والكتاب من الطرفين، رأيهم.
غرمول: لنخرج من جهنم ثم لنتحاسب بعد ذلك
أصر عبد العزيز غرمول، رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين، على أن السؤال المطروح هو: «ماذا نفعل أمام هذه التجربة الرهيبة.. تجربة الجزائر مع الإرهاب والتي دامت أكثر من عشر سنوات، وأدمت كل مظاهر الحياة»، ليضيف بأن الجواب واحد لا أكثر «كان لا بد من سلم ما يشرق في سماء هذا البلد الذي كادت تدمره الأحقاد والحسابات القديمة، كي نعود إلى أعمالنا ومشاريعنا التنموية وصداقتنا مع الحياة ومع الناس». أما حول التخوف من كتابة التاريخ بقانون فقد رد «إنني أعي بكل تأكيد سلبيات قوانين المصالحة، وأعرف أن ما يترتب عليها قد يصل تأثيره إلى المستقبل، لكننا في مواجهة وضع صعب، أي حل له سيكون داميا وله سلبياته ومآخذه، لذلك أجنح للسلم لأنه لن يحقن الدماء فحسب، ولكنه سيعطي لنا فرصة أفضل للتفكير في حلول أخرى تبني ولا تحطم. أعرف أن أكثر المعارك شراسة هي معركة السلم، وربما الشيء الوحيد المضمون فيها، بعد موازنة الأرباح والخسائر، هو تحقيق السلم في حد ذاته». وحينما سألناه عن إمكانية نسيانه ككاتب، للفترة التي كان فيها ملاحقا، ومن ثم كان مئات الآلاف من المواطنين يعيشون وضعه، غضب وانفعل وراح يصرخ قائلاً «هناك عماء حضاري لدى بعض الساسة، وهناك جراح في قلوب الأمهات، وهناك دفتر حسابات مفتوح على احتمالات قد تكون سيئة. لكننا في نهاية الأمر سنكون مضطرين لطرح سؤال الرئيس الراحل محمد بوضياف، الذي طرحه منذ أربعين عاما ولم نجد له الجواب الشافي الكافي: «الجزائر إلى أين؟»، من يحبنا اليوم بعد كل الذي حدث؟ أمام الجزائر مهام جسيمة، وهي في هذا الوضع الحرج الذي تقف فيه على الهاوية، مهما قدمت من جثث، ومهما استثمرت من وقت ومال، ستبقى على حافة الهاوية. لذلك وقفت شخصيا مع حل الجنوح للسلم والمصالحة، أما الجراح فكما قال الرئيس بوتفليقة... الزمن كفيل بشفائها».
هؤلاء لم يجيبوا
الطاهر بن عائشة الصحافي المخضرم قال باختصار شديد حينما سألناه «تريدون معرفة رأيي... حسنا، سأجيبكم عندما نلتقي في سويسرا». أما الأستاذ الجامعي الهادي الحسني، أحد كتاب الاتجاه الإسلامي، فكان رده «لا أريد التصريح، ما سأقوله سيزعج هؤلاء وأولئك...هل يكفي هذا؟». فيما كان رد محمد مكركب، وهو كاتب ومفكر إسلامي، كلمة واحدة: «سف». واكتفى الخير شوار، الروائي والقاص الشاب، بالقول «سجل! موقفي هو اللاموقف».
عبد الحميد مهري، المجاهد المثقف والزعيم الأسبق للحزب الحاكم، كان رده هو الآخر: «آسف»!
صمت هؤلاء يترجم عدم استطاعة بعضهم تجاوز جرح الماضي، ويكشف خيبة البعض الآخر.
يوسف وغليسي:أرفض التساوي مع مواطن يَفضُلني بجريمة!
رد د. يوسف وغليسي، الشاعر الناقد الذي فاز أخيرا بجائزة «مفدي زكريا للأدب المغاربي»، كان مميزا وواضحا: «باعتباري مواطناً مسلماً، مسالماً، ومشاركاً في مؤتمر المصالحة الوطنية الذي عقدته وزارة الثقافة الجزائرية، فلن أستطيع الوقوف في وجه مشروع يدعو إلى طي صفحة الدم، إلا أن ذلك لا يعني أنني مستعد للتساوي مع مواطنٍ آخر يَفضُلني بجريمة! نعم لعودة السلم، نعم للعفو، لكن لا لمحاولة التطاول على ذاكرة دمنا». أما السعيد بن زرقة، الأستاذ الجامعي الناقد والكاتب الساخر، فقد وقف بوضوح مع الدعوة إلى عدم فتح جرح الماضي ولو كتابةً «نعم للعفو، نعم للمصالحة، نعم للسلم الأهلي. ثم دعوا الوقت يأخذ مجراه. فتح دفتر الحساب معناه أن الأزمة ستطول، وأن قائمة الضحايا ستظل مفتوحة، ليعد الكل إلى بيوتهم وأعمالهم، ولتهتم الحكومة بتحقيق تنمية فاعلة، أما الجرح وأما الماضي، فإن فتحه متاحٌ في كل حين، فلنؤخر ذلك الحين قليلاً».
نصر الدين قاسم، كاتب عمود في صحيفة «الشروق اليومي»، الثانية في الجزائر، كان أكثر الجميع تطلباً وقال إن «جنوح السلطة ـ بعد سنوات الدم والدمار التي أفرزتها سياسة الحل بالحرب ـ نحو السلم وخيار المصالحة الوطنية كان له الأثر العميق في حقن دماء الجزائريين. حقيقة أن الخطوات التشريعية وتحت ضغط ما سماه الرئيس بـ«التوازنات الوطنية»، كانت تتضمن في حناياها الكثير من النقائص التي خيبت آمال الكثير من الجزائريين الذين كانوا يتطلعون نحو عفو شامل يطوي صفحة المأساة إلى الأبد، إلا أن التدابير التنفيذية لتلك التشريعات، أكدت أن الأمور تتجه نحو تجسيد خيار المصالحة الوطنية بمعظم أبعاده». ورفض قاسم بقوة وضع الأزمة على ظهر طرف واحد، معتبرا أن حلاً قائماً على الحوار الهادئ هو الكفيل بطي موضوع الدم نهائيا.
بين الأمل والحيرة
ردود الكتاب والمثقفين الجزائريين، لا تخرج عن ترجمة شعورين متناقضين يمسكان بتلابيب الكل. فالجميع يريدون طي صفحة المأساة بشكل نهائي، لكن الجميع واقعون في اسر حاجز نفسي جبار، المثقف الذي حمل السلاح لا يستطيع أن يتخيل نفسه على طاولة واحدة مع المثقف الذي «نَظرَ» و«بارك» سجنه وحرمانه من حقوقه السياسية، بينما لا يستطيع المثقف الذي تعرض لمحاولة اغتيال أن يضع يده بكل بساطة في يد من حاول قطف رأسه وسرقة فرحة أطفاله! المسافة بين الرغبة الجامحة في السلام، والرغبة الجامحة في تصفية الحساب، تكتبها كلمة «حاجز»، إلا أن الكل فيما يبدو سيحاولون الاقتداء بالرئيس بوتفليقة، فقد اغتيل ابن أخيه، وتعرض أفراد أسرته لنفس المصاعب التي عاناها مواطنون بسطاء، لكن انتقامه كان بإطلاق مشروع المصالحة الوطنية.
الشرق الأوسط ـ الاربعـاء 06 ربيـع الاول 1427 هـ 5 ابريل 2006 العدد 9990

ليست هناك تعليقات: