الاثنين، 7 أبريل 2008

مساعدو رئيس الحكومة الجزائرية منعوا الصحافيين من التقاط صور إصابته


الجزائر: بوطالب شبوب لم تكن حنان، ذات العقد الثالث، تعرف أنها ستودّع العالم حينما توجهت إلى مقر عملها بمقر رئاسة الحكومة الجزائرية، تماما كما لم تعلم صديقتها كريمة أن مشروع زواجها غدا في مهب الريح بعد أن أفقدها تفجير «القاعدة» أجمل ما تتباهى به أيُّ شابة. نفس السيناريو مع عمر ذي العشرين يوما ورئيس الحكومة الذي قدّم بعضا من دمه في يوم «الأربعاء الأسود».
صمت رهيب، وجوم شامل، وأحلام ممزقة، وعشرات من محطّمي القلوب، تلك كانت الصورة الوحيدة التي ملأت بهو مستشفى «مصطفى باشا» الواقع بوسط العاصمة الجزائرية، والذي استقبل الكم الأكبر من جرحى وقتلى التفجير الانتحاري الذي استهدف مقر رئاسة الحكومة الجزائرية.
عشرات العائلات تفترش بهو المستشفى، بينما يتراكض الأطباء الجرّاحون من جناح إلى آخر للحاق بالأجنحة المخصصة للعمليات التي استقبلت عددا غير عادي من المصابين، فيما رابط عدد كبير الشباب في البهو في انتظار أي خبر عن مصابيهم. بعضهم كان جالساً في ناحية الباب ينظر مرة إلى غرفة العمليات وأخرى إلى ناحية المدخل في انتظار قدوم قريب يواسيه او يقتسم معه الألم، بينما كان بضعة أطفال صغار مشتتين، بعضهم نام على الأرض لطول الانتظار، وبعضهم يمص قطعاً من الحلوى أو يلتهم «ساندويشات» البطاطس.
141 هو العدد الإجمالي للمصابين الذين استقبلهم المستشفى خلال ساعة واحدة، وهو عدد يتجاوز كثيراً إمكاناته، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أنه كان لزاما على طاقم جراحيه أن يجري 29 عملية جراحية مستعجلة.. رقم كان صعباً على الإدارة ان تستوعبه بالنظر لعدم وجود العدد الكافي من قاعات الجراحة والجرّاحين، وكذا اتسام كافة العمليات بالطابع الاستعجالي والتنوع الكبير، إذ شملت 4 عمليات في قسم العظام، وواحدة في قسم الأطفال، و11 في قسم الأعصاب، وواحدة في قسم الفم والحنجرة، و3 في قسم العيون، وواحدة في الجراحة العامة. أما البقية فكانت عمليات معقدة للغاية إذ توزّعت الإصابات على أنحاء عديدة من الجسم مما يستلزم طاقما طبيا يشمل كافة الاختصاصات.
وتقول السيدة جودي، الناطقة باسم المستشفى، إن يوم التفجير كان «يوما شاقا للغاية، فقد وضعنا أمام اختبار قاسٍ وكان لابد أن ننهض بالعبء». وتضيف الدكتورة آسيا موساي أن «الطاقم الطبي تحمّل ضغطاً غير عادي وقع بالأخص على الأطباء الجرّاحين».
أما السائق م. علي، فيقول إنه «لحسن الحظ كان التفجير في وسط العاصمة مما شكّل عاملا حاسما في تسهيل عملية إجلاء الجرحى، كما أن حالة الخوف التي أعقبت التفجير ودفعت المواطنين إلى الانسحاب من الشارع وفرت مرونة كبيرة لتنقلات سيارات الإسعاف، هذا دون الحديث عن التجنيد الرائع لجمعيات وروابط المتبرعين بالدم الذين ما إن سمعوا دوي الانفجار حتى هرعوا إلى المستشفى، بل إن بعضهم وصل إليه قبل وصول الجرحى. وكانت دماؤهم الساخنة فرصة حياة إضافية وهبت لعشرات المصابين».
رئيس الحكومة أصيب في كفه
* أكثر المتضررين من الانفجار الانتحاري كانوا من أعضاء ديوان رئيس الحكومة الجزائرية، عبد العزيز بلخادم، بل إن الرجل نفسه لم ينج، إذ أصيب كفّه وشجّ رأس مدير مكتبه. وكان على جهازه الأمني تأمين خروجه سالما من قصره وحمايته من أي اعتداء إضافي، فقام حراسه السبعة بإحاطته، بينما فعّل الأمن الحكومي أجهزة التشويش الهاتفي التي جعلت أي عملية اتصال بالجوال أو الثابت مستحيلة تفاديا لأي عبوة موجهة، وعملت على توفير صمت هاتفي كلي خلال العشرين دقيقة التي سبقت خروج بلخادم من مكتبه مسرعا ليستقل سيارة بيضاء من نوع «بيجو 406» في اتجاه مجهول، ويبدو أن الرجل الشجاع قد تأثر إلى حد كبير بالتفجير، إذ نسي حتى ان يمسح الدماء التي غطّت كفّه، وهو مشهد حرس جهاز الأمن على منع أي صحافي من التقاطه، فيما ركب الرجل السيارة، وهو ينظر للخلف متأملا العشرات من الموظّفين الذين يعملون معه، والذين فداه بعضهم بروحه، كحارسي البوابة اللذين أفلحا في توقيف سيارة الانتحاري عند البوابة الرئيسية عن طريق قتل سائقها لحظات قبل انفجار سيارته، لكنهما لم يفلحا في النجاة، أحدهما تدحرج رأسه بعيدا أما ثانيهما فلم يعثر له على أثر.
موظّفو رئيس الحكومة دفعوا الثمن كاملا
* الموظّفون الذين يشتغلون في ديوان رئيس الحكومة، كانوا في مقدمة من قدّم دمه. فحنان حناشي، الشابة ذات الاثنين والثلاثين ربيعا، التي تشتغل بديوان بلخادم موظّفة بسيطة، يشهد لها كافة زملائها بالبساطة والتواضع، لم تكن ذات أحلام كبيرة، ولا مشاريع ضخمة، كل أحلامها كانت أن تؤدي عملها وتقف إلى جانب عائلتها، أمسك بها التفجير الانتحاري في الطابق الثالث، ويبدو أنها كانت إلى جانب الجدار المواجه لسيّارة الانتحاري، إذ أطاح التفجير بالحائط تماما، وانتزعه من جنبات القصر ليلقي به خارجا، بينما انهارت أجزاء كبيرة من سقفه إلى الأسفل، حيث حطمت أضلاع حنان تماما، وسالت دماؤها بغزارة قبل أن يصل إليها المسعفون الذي وجدوا أنفسهم في مواجهة خاسرة مع الموت، فلم ينجح التدخل الجراحي في إنقاذ الشابة التي غادرت عالما لم تعمِّر فيه طويلاً.
أما كريمة عبد الباقي فقصتها أفظع، الشابة الجميلة التي تحوز لقب أسعد موظّفة في القصر الحكومي، حيث التقت نصفها الثاني أخيرا، وتقدم الشاب النجيب إلى عائلتها خاطبا إيّاها فمنحته العائلة يدها إكراما لعالم من السعادة تتوقع أن يمنحها للابنة التي يحبها الجميع. كريمة التي تشتغل بديوان رئيس الوزراء كانت قد اتّفقت مع خطيبها على أن يكون موعد 24 مايو (ايار) المقبل آخر يوم في حياة عزوبيتهما معاً، هذه الفتاة نفسها لم تكن تدري أن يوم الحادي عشر من أبريل (نيسان) الحالي سيكون آخر يوم في حياة أحلامها الوردية، لقد كانت في الطابق الثالث حين اندفعت الـ700 كيلوغرام من الديناميت نحوه فحطّمته وقذفت بخشب المكاتب وزجاج النوافذ وأجزاء كبيرة من الجدار الاسمنتي في وجوه الموظّفين، نصيب كريمة من الصدمة مس أعز ما تمتلكه شابة جميلة، فقد شجّ رأسها وقطعت أذنها وسكنت بقايا الاسمنت والخشب والزجاج عينيها. ورغم سرعة التدخل الطبي وفعاليته، فإن الأطباء وجدوا أنفسهم محرومين من أي فرصة لإعادة الأذن التي تمزّقت إلى عشرات الأجزاء.
«الشرق الاوسط» التقت بوالدي خطيبها في بهو المستشفى، فكان الحزن واليأس والرهبة من المجهول الحاضر الوحيد في عيونهما، لقد دخلت كريمة في غيبوبة تامة، ويبدو أن موعد استيقاظها سيكون أسوأ موعد تنتظره العائلة ككل، فالفتاة ستكون في مواجهة مصيبتها في جمالها ومصيبتها في خطيبها الذي فضّلت عائلته ألا تخبره بشيء حتى حضوره من السفر. عائلتا الخطيبين اجتمعتا ولا شيء على الشفاه سوى «الله يستر». شقيقة كريمة كانت تسير في بهو المستشفى جيئة وذهابا مشفقة على أختها. أما شقيق العريس فكان ممزّقا إذ يترتّب عليه أن يطلب من الأطباء تغيير الضمادات وفك اللفافات المحيطة بوجه المريضة. وعلى قدر حماستها لرؤية وجه خطيبة أخيه فقد كان خائفا بل مرعوب من الحقيقة التي ستكتشفها الجريحة حال استيقاظها وفكّ لفافاتها. وقف الرجل أمام باب جناح طب العيون يقدّم رجلا ويؤخر عشرا، وحوله وقف بعض الأصدقاء، يشجّعونه أو يدعون أن يرزقه الله الصبر، بينما كان الرجل يقول بحدّة «لا يمكن ان يكون هؤلاء من بني جلدتنا، هؤلاء جاءوا من عالم آخر، أفغانستان أو غيرها، يكرهوننا ويحقدون على بلدنا ويريدون تحطيمنا».
أصغر المصابين اسمه عمر. الرضيع الذي كان نائماً في مهده في غرفة تطل شرفتها على القصر الحكومي. وكما لو أن الانتحاري أراد أن تمس «رسالته» المتفجرة كافة الأجيال، الماضية واللاحقة.

"الشرق الأوسط" 13/4/2007

ليست هناك تعليقات: