الاثنين، 7 أبريل 2008

أغاني الراي .. جرأة وواقعية وتجاوز للخطوط الحمراء أحيانا

الجزائر: شبوب أبو طالب
يمكن القول ان اغنية الراي الجزائرية مرت بثلاث مراحل. تتمثل الاولى في بروز "ظاهرة الشيوخ" الذين كانوا يؤدون اغنيات تعبر عن "الرأي السديد"، ومن هنا برزت التسمية على أرجح الروايات، ثم جاءت مرحلة الثمانينات من القرن الماضي عندما برز "الشبان" يؤدون هذا النوع من الطرب بكلمات عادة ما كانت توصف بـ "غير النظيفة وغير المناسب سماعها وسط العائلة". لكن مع انتشار هذا النوع من الغناء في تسعينات القرن الماضي خارج الجزائر وبلوغه العالمية، في الغالب بسبب موسيقاه، بدأ "جيل المرحلة الثالثة" يتجه نحو تحسين اختيار الكلمات، ويقول الجزائريون ان "الراي" دخل برامج التلفزيوني الجزائري الرسمي، لاول مرة خلال هذه المرحلة. لكن رغم ذلك، فان هناك من يقول ان أغنية الراي لا تزال تتجاوز بعض الخطوط الحمراء.
فعبدو (او عبده كما يكتبها المشارقة)، مثلاُ، احد نجوم فن الراي الحاليين، عرف بتصريحه الدائم عن شذوذه، وهو لا يتورّع عن الاعتراف بذلك، بل قدم أغاني تدعو إلى الرأفة بعواطفه. وعبدو ليس طارئًا على المشهد الغنائي الجزائري، فله أكثر من عشرين سنة على المنصة، يرتدي لباسًَا نسائيًا، ويضع الأساور والخواتم، وكامل الزينة النسوية من "أحمر" الشّفاه إلى "وردي" الخدّين! ويرقص بفن تحسده عليه روبي.
بوح بلا حدود
* ومن بين أغانيه المتداولة واحدة بعنوان Appel masquژ أو (مكالمة مجهولة المصدر)، لا يسمح المكان بذكر كامل كلماتها، ففيها ما لا يخطر على البال، وما لا يمكن أن يُتخَيّل بأن نصًّا مكتوبًا بالعربية ـ العامية ـ يمكن أن يحتويه.
هذا الرجل ـ على حدّ قول بطاقة هويّته ـ ظاهرة حقيقية، وقد سبق لأكثر من قناة تلفزيونية أوروبية أن رافقته في جولاته الغنائية، وصوّرت طقوسه الخاصة بالكامل، واستجوبته فدافع عن طريقته في الحياة، بكل لغة يعرفها. وعندما رحل الأوروبيون عن وهران ـ مسقط رأس المطرب ـ كان في جعبتهم اعتراف يقول (إننا نستطيع أن نزايد على الجزائريّين في كل شيء إلا في هذا المجال)، ذلك أن المغني معروف، وممارساته مشهورة، ولكن لم يسبق أن أوقفه أي شرطي، ولم ترفع عليه أي دعوى قضائية، وإذا كان النّواب المصريون قد خصّصوا لروبي وهيفاء بعضًا من جلساتهم البرلمانية، فإن نظراءهم الجزائريّين لا تهمهم مثل هذه القضايا كثيرًا، بل ربما كان بعضهم من هوّاة أغانيه.
غناء نقدي
* إذا كان من عادة المشارقة مجاملة الشعور الوطني، والتغزل ببلدانهم، فإن بعض أشهر نصوص الراي الجزائري تحفل بانتقاد عارم للسلطة يصل إلى درجة الكفر بالبلد ذاته. فهذا (رضا الطالياني) واحد من بين أشهر مطربي الراي الشباب، يسجّل أغنية بعنوان (Les Kamikazes) أي (الانتحاريون)، يفتخر خلالها بأن الجزائريّين يملكون شجاعة انتحارية، في قدرتهم على الفرار من بلدهم! وتُعَدّد كلمات الأغنية وسائل الهرب، من تزوير جوازات السفر إلى الالتصاق بالبواخر المتّجهة شمال المتوسّط، بل ويتيه المطرب فخرًا بوفاء أبناء بلده لحلمهم بالهجرة، فإن فلتت هذا الموسم فلن تفلت الموسم المقبل، هذه الأغنية موجودة ومتداولة، ولاشيء اعترضها، ورغم أنّها ضد الوطنية على طول الخط، فقد كان الألبوم الذي احتواها قنبلة الموسم الماضي، وتحوّلت إلى ما يشبه النشيد الشبابي الجماعي، تصادفه في الملعب، والجامعة، والعرس وفي أي مكان.
(رضا الطالياني) لم يكن جريئًا في هذه وحسب، بل له أغانٍ غرامية في غاية الغرابة، من بينها (جوزيفين)، وتروي معاناة جزائري تزوّج من إيطالية ـ جوزيفين ـ طمعا في تسوية (تصاريح الإقامة)، لكنّه ما استطاع التأقلم مع طريقتها المتحرّرة في الحياة، وإذن فهو ـ بكامل رجولته ـ يطلب منها تطليقه، ويرجوها أن تعيد إليه وثائقه الثبوتية. أغنية قلبت سوق الكاسيت رأسًا على عقب، والذي يمكن أن يستشف من سماعها هو أسبقيتها في تناول قضية على درجة عالية من الحساسية، قضية واقعية ولكن لم تتناول في الغناء العربي بوضوح وصراحة، بل إن (مجتمع المهاجرين) العرب ككل، لم يحظ بمن ينصفه غنائيًا سوى الجزائريّين.
مفاجأة تلفزيونية
* للتّاريخ العسكري الجزائري خصوصيته، التي حملت كثيرين على وصم بعض جنرالات الجيش بالاستبداد، وقد أثير النقاش خارج الجزائر، ووصل صداه إلى الدّاخل، غير انّه ظل محصورًا بصحف المعارضة، وبعض الهمسات غير المسموعة. أسوأ المفاجآت حدثت يوم استضاف التلفزيون الرسمي (الشاب بعزيز)، وهو معارض عريق، بغرض تقديم وصلة غنائية على الهواء، ولثوانٍ قبل انطلاقته، ظل مخرج الحلقة، ومعه 30مليون جزائري لا يدرون ما الذي سيغنيه، لأنّه احتفظ به لنفسه، لتنفجر حنجرته بأغنيته الشهيرة حول (الجنرالات)، والتي لم يترك فيها أي نقيصة إلا وألصقها بهم. جَمُدَ منشّط الحفل، وجمدت كاميرات التصوير، وجمد المشاهدون، وباختصار كان المتحرّك الوحيد في الجزائر هو (الشاب بعزيز) طوال 5 دقائق هي مدّة الأغنية!
لا أحد جرؤ على توقيفه لأنّهم توقّعوا الأسوأ من مطرب لا يملك ما يخسره، بل إن المنشّط المضطرب، وجد نفسه يهدي المطرب باقة ورد عملاقة، ويغدق عليه الثناء العاطر! حصل هذا قبل سنوات قليلة، وبسببه منع المغني من دخول مبنى التلفزيون الرسمي ثانية، وكانت تلك أكبر ضربة تلقّتها المؤسّسة الرسمية الجزائرية، ورقيبها الفنّي بالذّات، حدث كل هذا في سابقة عربية تبدو معها كل التصريحات الفنية المعارضة لهذا الرئيس أو ذلك، مجرّد تلميحات لا ترقى إلى الجنون الذي مارسه (الشاب بعزيز). فإذا كانت روبي تثير الشّعور العام بتعرية ذاتها، فإن المطرب المشاغب قد عرّى وطنًا برمّته! ومازال حرًّا طليقًا لم يتعرّض له أحد بسوء بل ربّما كانت تلك الأغنية سببًا في حمايته بأثر عكسي.
كهذا هو الراي الجزائري، أفق غير محدود لممارسة البوح بكل معانيه، ولعل حاجز التأقلم مع العامية الجزائرية هو الذي منع وصول روائعه إلى كثير من الأقطار العربية، ومنعه بالتّالي من اهتمام يحق له أن يناله، ذلك أن الجرأة التي يحفل بها تفوق بكثير ما يتداول في أي وسط فني عربي خارج الجزائر، جرأة تكشف أن المخالفة الحقّة ليست في تعرية الجسد وحسب بل تعرية الحقائق أيضاً.
الشرق الأوسط ـ الخميـس 11 شعبـان 1426 هـ 15 سبتمبر 2005 العدد 9788

ليست هناك تعليقات: