الاثنين، 28 يوليو 2008

بشار مدينة المدن السبع.. بنتها الأساطير ونسجتها الحكايا

بشار (الجزائر): شبوب أبو طالب
حيثما تجولتَ في مدينة بشار، فإن الأسطورة ستظل رفيقك الدائم، منطقة قد لا تكفي سنة لزيارتها، ولكن تكفي لحظة واحدة لتمنحك الإحساسَ بأن سبعة عوالم كاملة تعيش داخلها.. ولكل عالم زمنه الخاص! تعتبر بشار عاصمة للجنوب الغربي الجزائري، ولا يفصلها عن العاصمة الجزائرية سوى ساعة ونصف من الطيران أي 950 كليومترا. بشار عبارة عن سهل هائل يمتد على مساحة 5000 آلاف كيلومتر مربع وتحيط به جبال ثلاثة؛ هي عنتر وقرزاز وبشار، ورغم وقوع المنطقة في الناحية الصحراوية للجزائر، فإن معدل الأمطار يقترب من 100 مليمتر سنويا، وهو معدل مرتفع للغاية، مما يبرر اخضرار بشار ووفرة الأشجار فيها.تتكون بشار من سبع مدن، هي بشار القديم، بشار الجديد، العبادلة، بني عباس، قرزاز، غار الذئبة وتابلبالة، بالإضافة إلى عشرات القصور التاريخية المنتشرة هنا وهناك، والتي تمنح المكان بُعدا أسطوريا يحيل إلى تاريخ ضارب في العراقة ولكنه غير مكتوب.وتبدو العراقة ماثلة في الحفريات التي يمتد عمر بعضها لأكثر من 25 قرنا، ولكن الثقافة الشفوية المسيطرة في المنطقة حولت التاريخ إلى حكايات يصعب فيها فصل الحقيقة عن الخيال، أو يصعب بالأصح التصديق بأن كل ذلك الجمال حقيقي لا مفتعل.تمتاز بشار بالتنوع الكبير في مناظرها، إذ توفر لهواة الصحراء فضاءات لا نهائية لممارسة كافة رغباتهم من رحلات السفاري إلى صيد الطيور والغزلان، كما توفر لعشاق التزلج على الرمال كثبانا رملية يزيد متوسط ارتفاعها عن الـ1300 متر، مما يجعلها موقعا مثاليا للتزلج، كما توفر المدينة لمحبي السباحة النهرية العديد من الأنهار والبرك، أما لمن يبحث عن الغرائب، فإن قصة المدن السبع هي أفضل أسطورة يمكن أن يلمسها بيده في تلك الناحية.فقد كانت بشار طوال تاريخها منطقة خضراء وسط بحر من الرمل يفصل شمال القارة الأفريقية عن وسطها، مما ضمن لها ازدهارا دائما، كما أن احتماءها ببحر الرمل جعلها أفضل مستقر يؤوي إليه الهاربون من العسف السياسي والخائفون على أنفسهم وأفكارهم، ولعل التمازح بين الصنفين أكد حقيقة غريبة، هي أن تاريخ بشار قد صنعه الضيوف والغرباء.فمن أبرز الشواهد على ما صنعه الغرباء تلك القصور المنتشرة حيثما توفر نبع ماء، فنظرا لاتساع المنطقة فقد جرت العادة أن يبني كل قادم جديد قصرا بالطوب المحلي، ويمارس داخله ما شاء من أفكار وتقاليد، يحدث هذا وسط تسامح كبير من سكان المنطقة الذين يتسمون بانفتاح غير عادي، وقد حدث هذا مع قصور «زاوية سيدي محمد» التي بناها المصلح الديني محمد بن موسى وعاش فيها مع أتباعه عيشة أقرب للغرابة، كما حدث مع قصر «غار الذئبة» الذي بناه أفراد قبيلة يَُسمون بأبناء الحسين وجعلوه قريبا من مغارة تشتهر بنقوشها الحجرية التي تمثل غزلانا وذئابا، كما حدث هذا أيضا مع قصر الأضرحة السبعة، وهي عبارة عن سبعة أضرحة عملاقة لا يعرف أحد لها تاريخا، ولكن جيرانها يقولون إنها هبطت من السماء ذات يوم مع مطلع الفجر، ورغم أن عمرها يزيد على القرون الثلاثة فلا زالت لغزا غير قابل للفهم.. بل إن الجيران لا يعلمون حتى شخصيات من بداخلها! ونفس الشيء مع قصر «سيدي عثمان» الذي تقول أسطورته إنه قدم من مصر مع نفر من أتباعه، وكان شيخا هرما، فلما أخذته سكرة الموت غرس عصاه في الأرض طالبا ألا تنزعَ حتى يفارق الحياة، وهكذا كان، فما إن صعدت روحه حتى انتزعت العصا وتفجر من أسفلها نبع ماء ما زال حاملا لاسم «سيدي عثمان» منذ أكثر من قرن غفل الراوي عن عدها.وأينما تجولت في المدن السبع لبشار، فلن تجد سوى الأسطورة، إنه بلد بنته الأساطير ونسجته الحكايا، ولعل ذلك راجع لتقاليد السمر الليلي، وهي جلسات مطولة يحتضن الشاي فيها الحكايا ولا تصفو إلا برغد العيش، عنصر مكفول جدا في بشار فالزراعة متطورة جدا والغلات الفلاحية تتراوح بين التمر والطماطم مرورا بالقمح والتفاح مما يجعل المائدة البشارية غنية للغاية، فهناك «الكليلة» وهي وجبة باردة عمادها الحليب المجفف الممزوج بنباتات محلية، وتصلح كمقبل لذيذ لوجبة دسمة تتراوح بين «الحريرة» و«الترفاس باللحم»، فـ«الحريرة» هي أول أطباق المنطقة المغاربية ككل، وهي عبارة عن قمح خاص يطحن بعناية ويضاف له السمن والأعشاب الطبية والطماطم وبعض الخضروات المطحونة بعناية، ما يفيد في إعطاء «طلقة تمهيدية» فاتحة للمعدة بانتظار الوجبة الثانية التي تختلف بين الليل والنهار، ففي النهار هناك «الترفاس باللحم» وهي وجبة تعد بواسطة «الترفاس» وهو نبات فطري محلي لا يزرع بل يتوافر في الطبيعة عقب كل موسم أمطار، وطعمه لذيذ للغاية لحد أن ثمن الكيلوغرام منه 10 دولارات. ويحضر «الترفاس» بعد تقطيعه إلى أطراف صغيرة تضاف لها كميات متوسطة من اللحم ويطبخ الكل في حساء من الخضروات، ومن شأن خليط كهذا ان يولد طاقة مضاعفة تساعد على العمل، على عكس «الكسكس» وهو الوجبة الرئيسية في منطقة المغرب العربي والتي يفضل البعض تناولها ليلا، وهي غنية عن التعريف، أما أنواع الخبز المحلي فتتراوح بين «المسمَّن» وهو خبز من طبقة واحدة يخلط بالسمن البلدي والعسل، و«الخبز» وهو شبيه بخبز الفرن الإفرنجي، ولا يختلف عنه إلا في مادة الإعداد.كما أن كثبان بشار الرملية توفر لك متكأً يذهب بك بعيدا في الزمن يطارد فيه خيالك آلاف الأساطير المزروعة في كل ركن من المنطقة، هذا إن كنت من هواة التخييم الطبيعي، أما إن أردت الفنادق فهناك أكثر من 10 فنادق جميلة ينطلق يبدأ سعر غرفها من 25 دولارا وتنتهي غير بعيد عن 150 دولارا. وتوفر هذه الفنادق إلى جانب إمكانات الإقامة الجميلة فرصا ذهبية للاختلاط بالناس وحتى مشاركتهم رقصة «الهوبي» وهي نظير «العرضة» السعودية إلا أنها تؤدَّى بالبنادق لا السيوف.
الشرق الأوسط اللندنية
الاربعـاء 24 ربيـع الاول 1428 هـ 11 ابريل 2007 العدد 10361
http://www.aawsat.com/details.asp?section=41&issueno=10361&article=414508&search=شبوب&state=true

المهرجانات الموسيقية الجزائرية.. كثرة العدد وفوضى التنظيم!


الجزائر: شبّوب أبو طالب
يصادف زوّار المدن الجزائرية مهرجاناتٍ موسيقية في كلّ مكان، هناك «مهرجان الرّاي» في مدينة وهران، «مهرجان تيمقاد» في مدينة باتنة، «ليالي الكازيف» في العاصمة و«مهرجان الموسيقى الأندلسية» بمدينة تلمسان... مهرجانات لمختلف الأذواق الموسيقية المحلية والدولية، مهرجانات بلا حصر، فما الحكاية؟ وكيف هو واقع المهرجانات الموسيقية الجزائرية؟ وماذا تخفي وراءها؟
للمهرجانات في الجزائر قصّة طويلة جدا، انطلقت بمسعى رسمي عام 1967لإنشاء مهرجان موسيقي ضخم باسم (مهرجان تيمقاد)، تطوّر من الصّبغة الوطنية إلى المتوسّطية إلى العالمية. وبمرور الوقت توالدت الهيئات الجزائرية التي ترعى المهرجانات والحفلات، وأخذت طابع عدم الاستقرار بناءً على التغيير الدّائم الذي شهدته التشريعات المختصّة من جهة،ومن جهة أخرى ذلك الصّراع الأيديولوجي الذي تشتهر به الجزائر بين (المعرّبين) و(المفرنسين)، والذي قاد إلى فقدان البوصلة باستمرار. فمثلاً يحدث أن يأتي (معرّب) لإدارة مهرجان موسيقي، فيكون التّداعي الطّبيعي أن تصبح غالبية المدعوّين من المشرق العربي، وتتلوّن اللّوحات بـ (الدبكة) و(العرضة) وغيرهما، فإذا آلت الإدارة في العام الذي يليه إلى (مفرنس)، فإنّه سيقصي كلّ هؤلاء ويدعو خوليو إيغليسياس وجيمي كليف!
بموازاة هذا عملت الوفرة البترولية على تشجيع مبادرات إقامة مهرجانات موسيقية من مختلف التصنيفات، محلية، وطنية، دولية، باعتبار الخزينة قادرة على السّداد، وتوفّر (مساحات شاغرة) داخل التشريعات المختصة يمكن لها فتح نافذة الربح الشخصي. وبمرور الوقت بدا أن أفضل إنجازات الإدارة الجزائرية هو كمّ ضخم للغاية من المهرجانات الموسيقية وتوابعها، تنظّمها هيئات رسمية وأهلية، دون فائدة ولا نتيجة.
من ترتيب الفوضى إلى الفوضى المرتّبة
* الى ما قبل العام الماضي، لم تكن التشريعات الجزائرية تتضمن شروطاً واضحة ومفصّلة لكيفيات الحصول على (الاعتماد الرّسمي) لإقامة مهرجان موسيقي، إذ كان يكفي استئجار قاعة أو مسرح في الهواء الطّلق لرفع لافتة (المهرجان الوطني....) أو (المهرجان الدّولي..)، والمشكلة أن هذه المهرجانات كثيرًا ما تحفل بما يسيئ إلى اللافتة (الوطنية) المرفوعة، وتحسب بالتّالي على البلد، لا على الهيئة المنظّمة... ويكفي كدليل على ذلك أن (وكالة إعلانية) نظّمت مهرجانًا موسيقيًا دوليًا، رغم أنّ ليس من مهامها فعل ذلك.
لإنهاء هذا الوضع بادرت وزارة الثقافة الجزائرية إلى إقرار تشريعات جديدة، نظّمت من خلالها العملية، وجاءت بالصّيغ القانونية الكفيلة بضمان تنظيم مقبول للمهرجانات الموسيقية، إلاّ أن تشريعاتها الجديدة لم تجد طريقها السريع إلى النّفاذ، بل تمّت مقاومتها بشدّة، إذ وقف ضدّها مسؤولون نافذون في التلفزيون الجزائري ومسؤولون نافذون في أكبر الوكالات الإعلامية الرّسمية، بل وشهد التلفزيون الرّسمي العام الماضي تغطية غير مسبوقة لمهرجان (ليالي البهجة)، الذي شارك فيه كثير من الفنّانين، مثل مصطفى قمر، شيرين وجدي، محمد منير. والغريب أن مسؤولي هذه الهيئة الرّسمية قد فعلوا هذا رغم يقينهم أن المهرجان غير قانوني، بل ودخل أثقل جهاز إعلامي جزائري على خطّ التنظيم والتّمويل أيضًا!
التشريعات الجديدة عانت أيضًا من (تفخيخ) داخلي منعها من النّفاذ، إذ أن مهرجاناً موسيقياً دولياً كـ (مهرجان تيمقاد) لا يمتلك هيئة تسيير مستقلة، بل ولا يعتمد مقاييس الرّبح والخسارة! وتصوّروا انه يعيش على موازنة سنوية من وزارة القطاع لا تُصَبُّ في رصيده إلا في آخر لحظة، قبل أسبوعين من انطلاقه، هكذا فإن القائمين عليه لن يجدوا فرصة التعاقد مع أي اسم محترم نظرًا لضيق الوقت، وسيضطرّون لـ (تمشية الأمور) بأي اسم وجدوه عاطلاً عن العمل!. أكثر من هذا فإن اعتماد المهرجان على موازنة رسمية قاد إلى لا مبالاته بالنّجاح الجماهيري، فحتّى لو غاب الجمهور فلن يتأثّر المهرجان، لأنّه لا يتغذّى على حصيلة بيع التذاكر، بل على الموازنة الرسّمية، وفي أحدى حفلاته لهذه السّنة كان عدد من اقتنى التذاكر هو 24 شخصًا من بين 10.000حضروا الحفل، ومع ذلك فلا احتجاج!
خطوات إلى الأمام
الخطوة التي اتّخذت قبل سنتين، عزّزت هذه السنة بقرارات مجلس الوزراء، الذي اعتمد، تسمية 6 مهرجانات وطنية، وأقرّ إفراد هيئة إدارية مستقلة (محافظة) لأبي المهرجانات الموسيقية الجزائرية ـ مهرجان تيمقاد ـ مع خصّه بميزانية مستقلة.
وجهاز رقابي يؤطّر عمله، وفق المقاييس الاقتصادية، يضاف إلى ذلك تعزيز العملية الرقابية على بقية المهرجانات التي جرى التّأكيد على أن الجهة الوحيدة الكافلة لإصدار (تصاريحها) هي وزارة الثقافة. وهكذا فقط جرى تحييد أصحاب النفوذ الذين عرقلوا طويلا التطوّر التسييري والأدائي لهذه التظاهرات الثقافية، ويبدو أن استحداث محافظات مختصة سيمكّن أيضًا من إنهاء الصّراع المحتدم بين (المعرّبين) و(المفرنسين) على تولي مهام الإدارة وما يرتبط بها من ريوع، إذ إن إخضاع الإدارة لضوابط العملية التسويقية ربحًا وخسارةً، سيقلّص مساحات النّفاذ إلى المال العام بلا حسيب ولا رقيب.
تبدو الجزائر في مرحلة صناعة تقاليد ثقافية محترمة، ويظهر أن أخطاءها السّابقة كانت سلة تجارب يمكن الاستفادة منها في صناعة غدٍ أحسن، وما اختيارها عاصمة لاحتضان (المؤتمر العربي الأوّل لمسيّري المهرجانات الموسيقية) إلّا دليل على تزكية عربية لمجهود يستحق الاحترام... ربما!
الاربعـاء 06 رجـب 1426 هـ 10 اغسطس 2005 العدد 9752

أزمة سكن حادة يعاني منها أبطال الروايات الجزائرية



الجزائر: شبّوب أبو طالب
آخر الروايات الصادرة، في الجزائر، ليس في اي واحدة منها طرف خيط يشدّها إلى البلد. وقد تبدو الكاتبات أكثر نزوعاً إلى الترحال من الكتاب.
السنة الماضية أفاق المشهد الثقافي الجزائري على «طفلة» في السابعة عشرة من العمر، روائية ذات لغة وخيال يصعب التصديق بأنهما غير مستعارين، الأمر الذي استوقف الروائي السوري نبيل سليمان في زيارته للجزائر، حيث أبى إلا أن يسجّل صدمته بالظاهرة التي تسمّى سارة حيدر. المشكلة أن رواية سارة حيدر التي تحمل اسم «زنادقة»، لا ترتبط بشكل أو بآخر ببلدها، بل تمتد من نيويورك إلى بغداد دون أن تتوقف في بلد المليون شهيد. والأغرب أن «الطفلة» عندما تتحدّث لا تأتي على ذكر بلدها ولو عفوًا، تحدّثت عن كل شيء إلا عن الجزائر، حتّى اسمها بدا غريبًا عن تشكيلة الأسماء والألقاب الجزائرية التي يندر فيها هذا اللقب المشرقي «حيدر». توقّع الكل أن ما قامت به سارة مرحلة وانتهت، لكن عندما سئلت «ما الذي تقرئينه؟»، تبين أن الأزمة مستمرة، إذ جاء جوابها «التاريخ التركي !».
في الأيّام السابقة طلعت علينا روائية جديدة، كانت قد شرعت في كتابة «ثلاثية» وعمرها 14 سنة وأنهتها في الثامنة عشرة. ثلاثية «ذاكرة الدم الأبيض»، صدمت المشهد الثقافي الجزائري، فكاتبتها فتاة تمتلك لغة سابقة لسنّها بكثير، ولا تتخلّف قدراتها الوصفية عن قدراتها اللغوية إذ أنّها تُطَوِّّعُ الجمل حتّى لَكَأَنَّها ريشة في يد رسّام أو قلب عاشق في يد حسناء مستبدة. لكن المشكلة ظهرت ثانيةً، فأحداث هذه الرواية تقع بين مدينتي «مانشيستر» و«ليفربول» البريطانيتين، وليس فيها اسم عربي واحد كي لا نقول اسما جزائريا. الفتاة تحدّثت في ندوة مشهودة عقدتها في «اتّحاد الكتّاب الجزائريّين»، قالت خلالها إنّها تعبت كثيرًا لتكتب عن العهد الفيكتوري وأحداثه في بريطانيا ـ الرواية تدور أحداثها أواخر القرن 17 الميلادي ـ وأنّها عادت لكل ما توفَّر من كتب ومراجع، بل وجنّدت الشبكة العنكبوتية لتحصل على خرائط تفصيلية عن «مانشيستر» و«ليفربول» كي يكون تموقعها الجغرافي سليمًا ولا تتوه عن مناجم الفحم ومصانع القطن. حين سئلت خديجة نمري عن مشروعها الجديد الذي تضع فيه كل عقلها ومشاعرها، بعد أن أضافت للأدب الانجليزي عملاً آخر، قالت إنّها تفكّر في رواية بوليسية، وأنّها شرعت في الاستعداد لذلك بـ«حملة قراءة» استنزفت كل ما خطّته الراحلة آجاتا كريستي.... وبعد لأيٍ قالت إن أحداث هذه الرواية البوليسية قد تكون جزائرية.
ولم يتوقّف الأمر عند صغار المشهد الثقافي، فالروائي والجامعي سفيان زدادقة الذي كان أوّل من تحدّث عن الظاهرة العسكرية الجزائرية وسمّاها باسمها، شرع أخيرًا في كتابة عملٍ جديد عن «الموريسكيّين» في اسبانيا ومثله فعل الكثيرون. طبعًا لم يغترب المشهد بكامله، فما زال الثقل الساحق تمثّله روايات تتغذّى من سنوات الجزائر العصيبة، لكن «الظاهرة الاغترابية» تفرض نفسها بقوّة، خصوصًا إذا استكملت الصورة بقراءة إحدى الفقرات التي كتبها أحد النقّاد الايطاليّين ممن أقاموا في الجزائر طويلاً، إذ قال «مشكلة الرواية الجزائرية هي البطل المثقّف»، أي أن معظم الروايات الجزائرية مؤخّرًا لا تسجّل يوميات شعبية بقدر ما تسجّل احباطات مثقّف وتترجم تقوقعًا فاشلاً ضمن منظومة المجتمع ككل، وإلا كيف نفسّر الظاهرة المحيرّة التي تجعل غالبية أبطال الروايات الجزائرية كتّابًا وروائيين. وهي قاعدة لم يشذّ عنها سوى قلّة، بينهم الروائي الشاب الخيّر شوّار وعبد الوهّاب بن منصور والروائي السينمائي عيسى شريّط الذي أخرج عملاً بعنوان «الجيفة» يحكي يوميات حيّ فقير تملؤه الموبقات. هل صارت الجزائر بلداً طارداً للذّات الراوية؟ أم أن الأمر برمّته صدفة غير مرتّبة؟ وهل ينعم الوطن بسلام يجعل من العثور على «مأساة» مناسبة لكتابة رواية عظيمة ضرباً من المستحيل؟
يخيل للقارئ ان أزمة السكن الحادة في الجزائر، لحقت بأبطال الروايات فهربوا.
الاربعـاء 22 صفـر 1427 هـ 22 مارس 2006 العدد 9976

من سرق مخطوطة ابن خلدون



شبوب أبوطالب
اجتمعوا ليكرّموه، فإذا به غير موجود! هكذا يمكن أن نلخّص النتيجة المدهشة التي انتهى إليها، الأسبوع الماضي، «ملتقى الجزائر الدولي حول ابن خلدون».
القصة أن رئاسة الجمهورية الجزائرية قد نظّمت ملتقى دولياً حول أعمال وفكر العلامة الراحل عبد الرحمن بن خلدون، دام ثلاثة أيام. وقد حضر الملتقى ما يزيد على 24 باحثا خلدونيا من 12 دولة، لكن المفارقة المدهشة أن الحاضرين قد صحوا على خبر فجائعي، مفاده أن نسخ المقدّمة، قديمها وجديدها، قد اختفت من البلد الذي كتبت به. صاحب البشارة السيّئة كان مدير مخبر البحث في المخطوطات بجامعة الجزائر مختار حسّاني، الذي قال وسط دهشة الحاضرين «لم تعثر فرق بحثنا على أي عمل من أعمال الراحل ابن خلدون، رغم امتداد إقامته بالجزائر، وكتابته للمقدمة على أرضنا»، ولم يكتف بذلك بل قال ان نتائج بحثه الشخصي قد ترجّح إحدى الفرضيتين المشهورتين حول مكان المقدمة، إذ تقول الفرضية الأولى بأن ابن خلدون قد أهدى النسخة الأصلية لـ(أبي حفص) سلطان تونس، وتقول الثانية بأن رواق المغاربة بجامع الأزهر يحتضن هذه النسخة، ولاحظ حساني بمرارة أن الأزهر لم يعلن أي تفاصيل بخصوص هذه القضية.
لكن مختار حساني لم يغفل الإشارة إلى فرضية ثالثة تقول بأن (المقدمة) الأصلية ما زالت في الجزائر، عطفا على ورودها ضمن الإجازات العلمية التي كانت تمنح لطلبة العلم بالمغرب الأوسط، حيث يعلن العالم المختص أنه يمنح إجازة التدريس للطالب الفلاني لثبوت تمكّنه من الاطلاع على محتوى مجموعة كتب ومتون. وقد عثرت فرق البحث الجزائرية على إجازات ذكرت فيها المقدّمة، وهكذا يستنتج أن النسخة الأصلية، أو على الأقل، ان بعضاً من بين أقدم النسخ قد تكون في الجزائر.
القضية خطيرة، إذ لا معنى لعدم وجود أي نسخة من نسخ المقدمة بمكان كتابتها سوى احتمالات جدّ مؤلمة، وهو الأمر الذي دفع بكثير من المختصين إلى تصوّر بضعة سيناريوهات لما يكون قد حدث.
يقول مسعود سيساني، أستاذ في علوم التاريخ، أن الفرضية الأقرب بالنسبة له هي أن تكون فرق البحث الفرنسية قد عثرت على المقدمة في عهد الاستعمار ومن ثمّ جرى نقلها إلى باريس، وحفظت في مكان غير معلن. وهو الأمر نفسه الذي جرى مع الكثير جداً من المحفوظات ذات القيمة التاريخية الكبيرة والتي حوتها خزانة «الداي حسين»، آخر حكّام الجزائر باسم السلطان العثماني. لكن الباحثة خيرة عمراني ترجّح أن يكون الأمر بعيداً عن ذلك، فبالنسبة لها «المقدّمة حلم الكثير من الباحثين عن الكنوز، ولا استبعد أن يكون أحدهم ـ جزائريا كان أو غربيا ـ قد صادفها، وفكّر ببيعها في سوق تهريب الآثار، ولن يمضي وقت طويل حتى تعلن دولة غربية أنها اقتنت المقدّمة من شخص ما، وتحتفظ بها كإرث قومي، كما تفعل المملكة البريطانية مع العديد من المراجع العربية التاريخية».
ويضيف عمر. م ـ أحد رجال الأمن العام ـ فرضية جدّ شخصية للموضوع، إذ يقول بأن «دلائل كثيرة تقول بأن فرق البحث الفرنسية، ربما، تكون قد عثرت على المقدمة، وأودعتها بمقر المكتبة الوطنية حالياً، لكن آثارها قد اختفت بعد استقلال الجزائر، ومن المرجّح أن بعض الموظّفين قد باعوها طمعاً بالمال، أو أن إدارة المكتبة الوطنية الجزائرية لم تعلن عن وجودها بمخازنها حفظا لها من خطر السرقة».
ويردّ السيد عمر. ب، على التساؤل الذي يستغرب عجز دولةٍ عن حماية وثيقة كهذه بالقول ان «سجّلات المكتبة الوطنية نفسها لا تذكر شيئا عن الموضوع، وبالتالي فلا إثبات على وجود المقدّمة بمخازنها إطلاقا، ولا دليل على عملية بيع أو سرقة، بل إن بعضهم يقول بأن الوثيقة موجودة في مقر المكتبة الوطنية الجزائرية، لكنّها اختفت مباشرة بعد زلزال 31 مايو (أيار) 2003 والذي نتج عنه انهيار جزئي لمخازن المخطوطات النادرة، ثم أغلقت ـ بغرض الترميم ـ لفترة غير قصيرة بالمرّة. وهي فترة تفتح الباب أمام كل احتمال».
وأمام سلسلة الاحتمالات التي يطرحها كل طرفٍ، يبدو أكيداً أن البلد الذي شهد ميلاد مقدّمة ابن خلدون بمغارة «أولاد سلامة» لا يمتلك أي نسخة من هذا العمل العلمي الذي يوصف بأنّه خطوة التأسيس الحقيقية لعلم الاجتماع بمعناه الحقيقي. وهي مأساة فعلية لأجيال من عشّاق ابن خلدون، ومن بينهم الرئيس الجزائري الذي قال بأن ابن خلدون «ابن هذه الأرض.. لا يلومنا في قول ذلك مشرقي ولا مغربي»، فمن سيكشف عن سارق المقدّمة؟
الشرق الأوسط٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦

«نجمة» الأديب كاتب ياسين اختيرت رمزا للجوال الجزائري


الجزائر: شبّوب أبو طالب
في الجزائر أطلقت إحدى شركات الجوّال خدماتها باسم «جازي»، وهو شعار نُحِتَ من اسم البلد مع بعض التحوير، وأطلقت شركة منتجات غذائية اسم «الصومام» ـ أشهر المؤتمرات العسكرية التي عقدتها قيادة ثورة التحرير الجزائرية ـ على منتج «لبن طبيعي»، كلّ هذا بدا مفهومًا.
لكن الظاهرة التي جذبت الانتباه، هي أن شركة اتّصالات اختارات اسم «نجمة» كشعار لها. و«نجمة» هذه هي أشهر أعمال الروائي الجزائري المرحوم كاتب ياسين. وهي المرّة الأولى التي يحمل فيها منتج تجاري اسم رواية، فخفخة غير معهودة في دول الشمال الإفريقي على الأقل. مسؤولو شركة الاتصالات قالوا إن الاختيار تمّ بناءً على سبر آراءٍ قامت به المؤسّسة، وكانت نتيجته أن الاسم الأكثر قبولاً هو «نجمة»، وعليه فليس لدى المسؤولين أي شيء غير عادي لتبريره. بل إنّهم يعتزون بكون كل رنّة هاتفٍ ستذكّر زبائنهم بالرائعة الروائية الخالدة، هكذا يكتسب «الجوّال» نفسه طعمًا آخر.
الجميل في ظاهرة الجوّال الذي يصادق الكتاب هو حياة الكاتب نفسه، فكاتب ياسين عاش حياةً صعبة شديدة التعقيد، وانتهى بائسًا وفقيرًا ومحطّماً، لكن اسم أفضل أعماله سيذكّر الكل به، وسيضمن له من الخلود ما لم يحلم به، ناهيك من إدخاله التاريخ من أوسع أبوابه، كأنه «سوبر ستار» صنع شهرته من قلمه، وظلّت هذه الشهرة فاعلة حتّى بعد رحيله.
يحكي ياسين للكاتب العراقي سيّار الجميل في كتابه «نسوة ورجال» قائلاً: «ولدت عام 1929 في منطقة القبائل وأنا أمازيغي. كانت طفولتي صعبة ولكنني كنت مشاغبا، وطفقت اكتب وأنا ابن عشر سنوات فرأي الآخرون عندي مخايل الذكاء واضحة لا تحتاج إلى أي تفسير.. مررت قبل أن ادرس في المدرسة الفرنسية بالكتاتيب التي تعلم القرآن، على عادة أترابي التقليديين. لم يشجعني احد على الكتابة إلا احتلال فرنسا للجزائر الذي جعلني أكون سياسيا في كل ما اكتبه وأقوله من النصوص النثرية وقصائد الشعر.. لقد ولدت «نجمة» من مجموعة إيحاءات وهواجس ورموز كنت ألملمها كل يوم على مدى عشر سنوات، أي منذ عام 1946 لتغدو رواية صدرت في باريس عام 1956، وأنا شاب جزائري في العشرينيات والثورة المسلحة قد اندلعت في كل البلاد.. ونجمة هو رمز لابنة العم التي كنت متعلقا بها إلى حد الجنون!». ويعلّق سيّار الجميل على الكلام بالقول «لم يكن اسمها نجمة، كان اسمها زليخة وكانت متزوجة وتكبره بعشر سنوات.. وعليه، فهذا الحب ضرب من المستحيل».
هذه هي ظروف ميلاد «نجمة» التي تروي قصّة حياة «لخضر» ذلك الذي يتساءل دوماً عن سبب حبّ الكل لـ«نجمة» رغم إدانتهم لها بذات الحين. وهو سيناريو تشبيهي لما كان يحدث مع الجزائر التي كانت «مستباحة» من طرف الفرنسيّين، ولكن الكلّ كان متعلّقًا بها.
هذا هو الوتر الذي تعزف عليه تفاصيل الرواية من أوّلها لآخرها، ولهذا السبب فإنّها قد منعت من التداول في فرنسا حتى استقلال الجزائر، كما منع عرضها كمسرحية في ذات البلد حتّى سنة 2003، اذ عرضت في إطار فعاليات سنة الجزائر الثقافية بفرنسا. مشكلة الفرنسيّين كانت أن «نجمة» تتألّق بشكل غير اعتيادي، ويضمن لها مستواها مكانةً متقدّمة للغاية في سجّل الأدب المكتوب بالفرنسية، إلا أنّها تبقى رغم كلّ ذلك عملاً يدين الاستعمار ويصمه إلى الأبد.
ياسين لم يقدّر له الاستمتاع بشهرته كثيرًا، إذ أن روح النضال بداخله تغلّبت على الفن. لقد أخرج الكثير من الأعمال إلى النور ففي الشعر أخرج «مناجيات» و«قصائد إلى الجزائر المضطهدة» و«مئة ألف عذراء» و«تحت صرخات الديكة». وفي المسرحية كتب «الجثة المحاصرة» و«دائرة القمع» و«غبار الذكاء» و«الأسلاف يزدادون ضراوة« و«المرأة المتوحشة» و«الرجل ذو الصنادل المطاطية» و«حرب الألفي عام» و«ملك المغرب»، وأضاف في الرواية عملاً بعنوان «المضلع النجم». كل هذا لم يشفع للرجل الذي كان يسارياً متطرّفًا، وظلّ دائم الاصطدام بالشعور العام والمؤسّسات الرسمية في ذات الحين، لم يتقن المهادنة ولا عرف الحلول الوسط، وانتهت به حياته مشرّدًا مسكينًا وفقيرًا بمدينة «غرونوبل» الفرنسية يوم 29 أكتوبر 1989. وكم هي المفارقة عجيبة، أن يموت المبدع فقيرًا لكن آخرين لا صلة لهم بالإبداع يجنون الذّهب والألماس من اسمه!
الشرق الأوسط اللندنية
الاربعـاء 24 محـرم 1427 هـ 22 فبراير 2006 العدد 9948

أصغر رؤساء التحرير في الجزائر: فرضت نفسي بالمهنية والأخلاق والاحترام


أبو طالب شبّوب

إبراهيم قارعلي صحافي أصبح رئيس تحرير عندما كان عمره 24 سنة فقط، وحافظ على منصبه في كل الصحف التي تنقّل بينها، حاليا يبلغ 38 عاما ويشغل منصب نائب رئيس تحرير في ثاني اكبر صحف الجزائر (الشروق اليومي وتوزع 250 ألف نسخة يوميا)، وعلى الرغم من ابتعاده عن المسؤولية المباشرة إلا انه يبقى مشغولا حيث قال ان لا وقت لديه لجلسة حوار، فما كان من حلّ أمامنا سوى ملاحقته بين قاعات التحرير. نطرح أسئلتنا ويطلق أجوبته. السؤال الأبرز هو: كيف وصل الى اعلى منصب في الصحافة في عمر مبكر للغاية؟، وكيف تعامل الناس معه؟، وكيف كانت ردة فعله، اضافة الى ذلك، فإبراهيم خبير في حال الصحافة في الجزائر فكان لا بد من سؤاله عن ذلك أيضا، وفي ما يلي نص الحوار الذي جرى في الجزائر: > لا بد من سؤالك، كيف تعاملت مع من نظر اليك في هذا المنصب نظرة سلبية لكونك صغيرا في السن نسبيا؟ ـ أن تكون رئيس تحرير اصعب من ان تكون رئيس جمهورية خصوصا في سن مبكرة، فستوضع نتيجة لذلك في العديد من المواقف الصعبة وهذا الذي حصل معي مرارا، لكني تعلمت ان الاسلوب الوحيد لفرض نفسي هو ان اكون شخصا محترما ومهنيا واخلاقيا لأبعد الحدود. فبهذا الشكل وحده يمكن ان تحول الاستصغار والدونية الى نظرة احترام وتبجيل. ولن أخجل من البوح لكم بأنني كنت اتفادى الكثير من القراء الذين يأتون للبحث عني في الجريدة، لأنهم يفاجأون برؤيتي وتصطدم صورتي في اذهانهم بشكلي في الواقع، حيث يعدني بعضهم من كبار اعمدة الصحافة الجزائرية ويتخيلون انني شيخ اشيب او كهل اصلع، وهذه الصورة تسقط لمجرد رؤيتي واخشى ان يؤثر شكلي فيهم. > كيف وصلتم رئاسة التحرير في تلك السن الصغيرة؟
ـ لقد مارست منصب رئيس التحرير لأكثر من عشر سنوات، وفي جرائد كثيرة، وبالنسبة إلى الجرائد اليومية، فقد كنت أصغر رئيس تحرير في أكبر جريدة يومية في وقتها. وقد لا يهمني ذلك فالمفارقة أن الصحافيين يختمون مسارهم المهني برئاسة التحرير، ولكنّي أكاد أمثل حالة استثنائية في الصحافة الجزائرية فقد بدأت مسيرتي الصحافية برئاسة التحرير.
إنني لا أتكلم بنوع من النرجسية، لكنها ملاحظة أساتذة كلية الإعلام في الجزائر، حتى أن أحد هؤلاء الأساتذة الذين تعلمت على أيديهم فنيات الكتابة الصحافية قد قال عني إن منصب رئيس التحرير بالنسبة إليّ هو وظيفة أصلية لا ترقية! > لكن كيف وصلت الى هذا المنصب؟ ـ لقد وصلت الى رئاسة التحرير لا بالانقلاب ولا بالانتخاب وإنما اوصلني قلمي لهذه المسؤولية وتعلمت ان احافظ على هذا القلم لكي يدوم احترام الناس لي حتى وان زالت المسؤولية. > هل من السهل أن تكون رئيس تحرير في الجزائر؟
ـ كان من الصعب في بداية التجربة الإعلامية الحرة أن تكون رئيس تحرير في الجزائر لأن الأمر كان يتعلق بالمهنية وبالاحتراف، لكن بعدما انتكست الصحافة الجزائرية قد أصبح من السهل جدا أن تصبح رئيس تحرير، ربما لأجل ذلك أصبحت أصف رئيس التحرير برجل المهمات القذرة، وربما لأجل ذلك قد آن لي أن أستريح من هذه المهمة القذرة! > تحدثت عن صحافيين برتبة جنرالات ومواطنين بدرجة رؤساء، هل هنالك صحف تستطيع إقالة الرؤساء في الجزائر؟
ـ حدث أن غُرّر بالصحافيين في أحد الانتخابات الرئاسية، واعتقد الصحافيون أو توهموا بأنهم يستطيعون إيصال هذا المترشح إلى القصر الرئاسي، هم في الحقيقة وضعوا أنفسهم مكان المواطنين وانتخبوا بدلا عنهم! هكذا انحرف هؤلاء الصحافيون عن رسالتهم الإعلامية المقدسة.
لو كانت الصحافة الجزائرية هي التي تصنع الرؤساء، حقا لكانت تستطيع أن تقيلهم. فإذا كانت السلطة هي نفسها قد خلقت هذه الصحافة، فكيف بهذه الصحافة تتحول إلى آلهة تُجلس فوق عرش السلطة من تشاء! > مارست الصحافة بشاعرية، والشعر بـ «تصحيف» هل من تناقض بينهما؟
ـ أبدا، لا أرى هنالك أي تناقض، كثير من مقالاتي الصحافية تشبه قصائدي الشعرية، ربما أكون قد حاولت ذات مرة أن أكتب شعرا فتمخضت القصيدة عن مقالة صحافية، وقد يحدث لي عكس ذلك، فأكون صحافيا مع القصيدة مثلما أكون شاعرا مع المقالة الصحافية.
> كيف ترى مستقبل الصحف الجزائرية؟
ـ إن المستقبل يتحدد على ضوء الحاضر الذي هو نتاج الماضي وحين نعرف من أين جاءت هذه الصحف نستطيع أن نعرف إلى أين تتجه ومع ذلك فإنني اتطلع إلى غد مشرق للصحافة الجزائرية، حيث لا يبقى في الساحة الإعلامية غير الجرائد المهنية، وهنا أراهن على الصحافيين أنفسهم لا على غيرهم.
إن الصحافة التي جاءت مع الريح، لا بد أن تذهب معها، وتتناثر أوراقها مثل أوراق الخريف الذي كان يعصف بالجزائر أول مرة! > باعتباركم واحدا من أصغر رؤساء التحرير في الجزائر، كيف تقدمون الصحافة الجزائرية للقارئ العربي؟
ـ الصحافة الجزائرية ظهرت خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي أخذ طابعا استيطانيا، فكانت هناك جرائد للمستوطنين الفرنسيين وجرائد أخرى للأهالي الذين هم الجزائريون، بل إن كلمة الجزائريين لم تكن في ذلك الوقت تطلق على الجزائريين سكان الأرض الحقيقيين ولكنها كانت تطلق على الفرنسيين الذين يحتلون الجزائر ويسكنون فوق أراضيها المحتلة! وللأسف الشديد أن الجرائد التي ظهرت خلال الاحتلال لم تعد إلى الصدور، مع الاستقلال وكأنها ذهبت مع الاحتلال إلى غير رجعة، حيث احتكرت الدولة المستقلة إصدار المطبوعات، فكانت الصحف إما تابعة للحكومة أو للحزب الحاكم، ومع ذلك بقي الصحافيون يناضلون من أجل حرية إصدار الجرائد، وهو ما حدث بالفعل غداة أحداث أكتوبر، حيث أقرت السلطة حرية إصدار الجرائد وحرية تأسيس الأحزاب، ومع الانفتاح الإعلامي والسياسي ازدهرت الصحافة الجزائرية في بدايتها خاصة أن الذين خاضوا التجربة هم صحافيون مهنيون وليسوا دخلاء على الحقل الإعلامي، ولكن حدثت الانتكاسة مع إلغاء المسار الانتخابي والديمقراطي. ومع اندلاع أحداث العنف في الجزائر حصل تراجع في جودة الصحافة. ما يؤسفني أننا في الجزائر نمتلك صحافة ولا نمتلك مؤسسات إعلامية، ولذلك فقد اصبح كل من هب ودب يمتلك جريدة وهو لا علاقة له بالإعلام، وذلك ما جعل الصحافة الجزائرية تتقهقر إلى الوراء، فيما يفضل الصحافيون الجزائريون الهجرة بأقلامهم إلى المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم العربي. فإذا كنا أثناء أحداث العنف نخاف أن نقول إننا صحافيون، فإننا بعد ذلك ومن الناحية الاجتماعية قد أصبحنا نستحي أن نقول إننا صحافيونّّ! > ما هو موقفك من صحافيين يسجنون بتهم غير إعلامية؟
ـ إن الصحافي قبل كل شيء هو مواطن، بل إنه لا يستحق أن يكون صحافيا حين يعتقد بأنه مواطن من الدرجة الأولى. ومن الطبيعي أن يدخل الصحافي السجن باعتبار أنه مواطن حكمت عليه العدالة في قضايا تتعلق بالحق العام، ما هو غير مقبول هو أن يتوهم الصحافي بأنه فوق قوانين البلاد وفوق العباد، فيتجند الصحافيون والحلفاء السياسيون من أجل تضليل الرأي العام حين يربطون سجن الصحافي بحرية التعبير، بينما هو يكون قد دخل السجن لسبب آخر! > بعد سنوات من العمل الصحافي، ما هو الشعور الذي تحملونه كنتيجة لتراكم كل هذه السنوات؟
ـ صعب جدا أن اختصر سنوات من العمر في لحظة عاطفية، ولكن شعوري الوحيد الذي لا يفارقني أبدا، هو أنني ما زلت تلميذا في مدرسة الصحافة، ففي كل يوم أتعلم شيئا جديدا، بل إنني أحفظ درسا جديدا.
لست أبالغ في الأمر، إذا قلت إن أساتذتي الحقيقيين هم هؤلاء القراء الذين أكتب لهم! > فيما تختلف الصحف الجزائرية عن نظيراتها المشرقية والدولية؟
ـ توجد في الجزائر حرية ولا توجد صحافة، بل إن الصحافة الحرة غير موجود ما دام أنه لا توجد مؤسسات إعلامية بمعنى الكلمة، فالصحافة قبل كل شيء مؤسسة، حقا يوجد في الجزائر صحافيون يناضلون باستمرار من أجل تأسيس صحافة حقيقية وليس مزيفة.
وقد تغدو، صورة واقع الصحافة كاريكاتورية في بعض البلدان العربية، التي توجد بها مؤسسات صحافية ولكنها لا تتمتع بالحرية، قياساً بالحرية التي يتمتع بها الصحافيون الجزائريون الذين يفتقرون إلى مؤسسات صحافية. > أين تقف الأحزاب من لعبة الصحافة في الجزائر؟
ـ حزب جبهة التحرير الوطني هو الحزب الوحيد الذي استطاع أن يخلق صحيفة يومية بعد اقرار التعددية الإعلامية والحزبية ولم تكتف السلطة بمصادرة الجرائد التي ورثها، بل عمدت إلى توقيف الصحيفة التي أنشأها أول مرة، ولكن بقية الأحزاب تريد أن تختفي وراء الصحف، ومن الغرابة أن يصل حزب إلى الحكم وهو لا يمتلك أية صحيفة.
صحيح، الصحافة لا توصل المرشحين إلى السلطة، ولكن من العيب أن لا تكون للأحزاب السياسية جرائد يومية أو أسبوعية.
* سيرة ذاتية
* إبراهيم قارعلي
* من مواليد 13 أكتوبر من عام 1968 يعمل حاليا نائبا لرئيس تحرير «الشروق اليومي». وهو حاصل على شهادة البكالوريا شعبة آداب وشهادة الليسانس في الإعلام والاتصال وشهادة الماجستير في التاريخ فرع تاريخ الثورة.
اقتحم عالم الصحافة من بوابة استقلاليتها فكان من الجيل الأول الذي خاض تجربة الصحافة المستقلة في الجزائر. اشتغل صحافيا في العديد من الجرائد اليومية والأسبوعية وتقلد رئاسة التحرير في الكثير منها. مثل الجزائر اليوم والحوار والعالم السياسي وصوت الأحرار والمحقق والسفير والأخبار.
شارك في دورة تدريبية حول الصحافة الاستقصائية في بيروت لبنان وحصل على شهادة من مركز إنترنيوز الأميركي.

الشرق الأوسط اللندنية

الاحـد 18 ذو الحجـة 1427 هـ 7 يناير 2007 العدد 10267

"بركات".. سينما تترحم على الاستعمار

أبوطالب شبوب
فيلم "بركات" غير عادي.. هذا هو الوصف اللائق جدًّا بآخر إنتاجات السينما الفرنسية. غير عادي؛ لأنه يروي مقاربة فرنسية غريبة لسنوات الدماء في الجزائر، فبدلاً من تصوير الصراع الدموي بين السلطات والمسلحين الإسلاميين؛ فإن الفيلم يرى أن الذين مارسوا المذابح الجماعية هم مناضلو حرب التحرير الجزائرية.. وهم أنفسهم أباطرة المال واللصوصية وسدنة احتقار المرأة وظلمها.
"بركات" الذي شهدت قاعة "الموقار" بوسط العاصمة الجزائرية عرضه الشرفي، هو باكورة إنتاجات المخرجة "جميلة صحراوي" وهي من مواليد 1950، وقد تقاسمت بطولته كل من "رشيدة براكني" و"فطومة بوعماري"، فيما توزع السيناريو بين المخرجة "جميلة صحراوي" والسيناريست الفرنسي "سيسيل فير غافتي".
الإرهاب والمفاجأة
تبدأ الأحداث سنة 1990، باختطاف زوج البطلة أمال (رشيدة براكني) من طرف جماعة مسلحة؛ بسبب انتقاداته اللاذعة للعمليات الإرهابية التي شهدتها الجزائر في الفترة بين 1990 - 1999، فتقرر البطلة أن تبحث عنه، ولتفادي المشاكل واختصار الوقت فإنها تصطحب صديقتها الممرضة خديجة (فطومة بوعماري) في رحلة إلى معاقل الإرهابيين بأعالي الجبال.وبالفعل تنجح وصاحبتها في استنقاذ الزوج المختطف، ولكن على وقع مفاجأتين رهيبتين، تتمثل الأولى بكون قائد المجموعة الإرهابية مستثمرًا كبيرًا ومناضلاً سابقًا في حرب التحرير الجزائرية، أما المفاجأة الثانية فلا تقل إيلامًا ودراماتيكية، ذلك أن الذي نفذ عملية الاختطاف هو والد أحد الأطفال الذين أنقذت البطلة أمال حياتهم بحكم اشتغالها طبيبة.
هذه هي قصة الدم في الجزائر كما ترويها عدسة جميلة صحراوي، مناضلون وطنيون يحررون بلدهم، ثم يتفرغون لقتل أبنائه وسرقته بدلاً من تعميره.
هذا عن الجيل الأول والأكبر في جزائر الاستقلال، أما الجيل الثاني فيمثله شباب يتخلى عن أسرته؛ ليقتل من يقوم بتطبيبها (أمال) وزيادة وعيها (زوجها الصحافي)؛ لتكون المحصلة فشلاً مستمرًّا لمجتمع فقد أي رغبة بالحياة,
نظرة الفيلم للمأساة الجزائرية غريبة جدًّا، ذلك أنها تجرِّم مناضلي جيش التحرير الذين طردوا فرنسا بعد استعمار دام 132 سنة، وتلقي عليهم تبعة فشل مشروع المجتمع الجديد، كما تجرِّم الجيل الجديد من الجزائريين وتصمهم بالعنف والدموية، فيما توحد الجيلين تحت بند اضطهاد المرأة ومحاربتها باسم تقاليد بالية. وغني عن القول إن هذه النظرة لا تثمر سوى تمجيد المستعمر الفرنسي الذي وفّر "السلم الاجتماعي" أيام "عدله" توزيع الظلم لكافة شرائح المجتمع الجزائري.
التناقض
بدا سيناريو الفيلم غير مقنع بالمرة، ذلك أنه يعاني من أزمة مشاهد؛ إذ لا يمكن لرؤية واحدة أن تقنع الضحية "المشاهد الجزائري" والجلاد "المشاهد الفرنسي" معًا.
وعطفًا على ذلك سارت الأحداث باستخدام "قفزة الضفدعة" في عدة اتجاهات مختلفة لا رابط بينها ولا منطق؛ إذ فيما تُصرّ "خديجة" في أحد المشاهد على ارتداء "الحايك" -وهو لباس محلي يغطِّي المرأة تمامًا- ورفض "الحجاب" في شكله القادم من المشرق العربي؛ بحجة الحفاظ على التقاليد الوطنية، فإنها في مشهد آخر تظهر إصرارًا أكبر على ارتداء زينتها كاملة قبل خروجها من بيتها وتدخين سيجارتها بلذَّة غريبة. مشهد لا علاقة له بصورة "الحفاظ على التقاليد" التي تحاول المخرجة إلباسها لـ"خديجة".
وهو تناقض يتناسخ بطول الفيلم مع البطلتين ويُضعف تركيبتهما التي سعت المخرجة؛ لجعلها واضحة وصريحة في مقابل شخصيات بقية أفراد المجتمع المتسمة بالتردد والحيرة.أداء البطلتين كان متوسطًا مع أفضلية رشيدة براكني، وهي من مواليد 1977، والفائزة قبل ذلك بجائزة أفضل ممثلة عن "بينالي السينما العربية" الذي احتضنه معهد العالم العربي بباريس (دورة 2006)، وظهر تصوير كاتل ديجيان وصوتيات أوليف سكووب في مستوى جيد للغاية، في محاولة لتفادي عثرات النص وهشاشته، أما الموسيقى التصويرية التي أعدَّها عازف العود الجزائري المعروف بـ"علَّة" فقد اصطدمت مرارًا بسيناريو الفيلم للحد الذي يعتقد معه المشاهد أنها "أقحمت" إقحامًا فيه، ولم يجرِ الاتفاق بشأنها مسبقًا.
الفيلم الذي جاء كعمل مشترك فرنسي - جزائري، أوضح بجلاء أن الرؤية الحاكمة في أعمال كهذه هي رؤية الطرف المموّل، حتى إن كانت منقضة للواقع وللحقيقة أيضًا.

*الشرق الأوسط بتاريخ 24 نوفمبر 2006.

الأحد، 27 يوليو 2008

سيمبوزيوم الديار يدخل مراحله النهائية

الدوحة - شبّوب أبوطالب
كانت نهاية الأسبوع الماضي موعدا مع إتمام غالبية المتنافسين في «سمبوزيوم الديار» التشكيلي لأعمالهم، وفيما لم تبقَ إلا بعض التدقيقات والرتوش الطفيفة فإن أعضاء لجنة التحكيم قد بدؤوا التفكير باكرا في النتيجة النهائية التي لن يكون حسمها سهلا.وتكشف جولة داخل كواليس المسابقة عن الصراع الصامت الذي يدور رحاه بين المتنافسين، كلٌّ على طريقته، فقد اختار الرسامان العراقيان الأسلوب الذي أعلناه من قبل، حيث جسّد الفنان سالم مذكور صورة لشيخ يتكئ على أحد جدران سوق واقف، بينما تكشف ملامحه ونوعية الجدار عن الشيء الكثير من ماضي قطر وتاريخها، وقد أبدع مذكور بشكل كبير في التعامل مع موضوعه وإن كان اللون السماوي الذي اختاره ليس لونا كثير الاستعمال في قطر، وهو اختيار سيضع التزام مذكور بالواقعية الفنية على المحك برغم وفائه لتمثيل صورة الرجل الذي «يعيش في غير زمنه»، حيث بدا الشيخ المرسوم خارجا لتوّه من عهد غابر، ومسافر بآلة زمن توقّفت دقائقها وثوانيها على موجات القرن الماضي. أما الفنان إسماعيل عزام فقد جسّد لوحة فنية من الخمسينيات تقريبا، وتمثل صورة لوسط سوق واقف وقد تناثرت على جنباتها المحلات بأسمائها الشعبية الشائعة حينذاك من «متجر الجوهرة» إلى «المعرض الوطني» وقد اختار أن يمثل صورة ذلك العهد بشكل يبدو أقرب للحَرفية منه للابتكار، وهو موضوع سبق أن رأيناه في أعمال سابقة لعزام وغيره من الفنانين المقيمين بقطر، ما يطرح سؤال التجديد لحظة الحكم على اللوحة حتى ولو دخل في الاعتبار التزام الفنان منذ البداية بإنجاز عمل واقعي لا فلسفة فيه.من ناحية ثانية، يظهر أن المنافسة ستكون حامية للغاية بين الفنانين: السعودي زمان جاسم والعُماني أنور سونيا على صعيد المقاربة الفنية وعلى صعيد العمل أيضا، فقد اختار الفنانان كلاهما المدرسة التجريدية واشتغلا على التناغم اللوني بشكل مدهش، وبدا لمن راقبهما أنهما الفرسان الأسودان في صراع الظفر بذهب «سمبوزيوم الديار»، حيث عمل زمان بشكل متقن للغاية وتوقّف مطوّلا عند كل تفصيل في لوحته، وصبر طوال الأيام الماضية على التعامل الهادئ مع لوحته فيما كان زملاؤه قد قاربوا النهاية، ولعله قد جسّد حقيقة مقولته إنه لا يرسم ما يخطّط له ولا يخطّط ما يرسمه وإنما يدع اللوحة لتنمو من تلقاء ذاتها، وفي الاتجاه المقابل فقد كان الفنان أنور سونيا على موعد مع حيازة جزء كبير من إعجاب الحاضرين، خصوصا أن من أجمل المشاهد التي قدمها السمبوزيوم للزائرين: اللوحة التي صنعها أنور سونيا بنفسه، فقد قضى يوم نهاية الأسبوع برمّته عاكفا على لوحة واحدة وتفصيلات دقيقة ولم يتحرّك ولو مترا بعيدا عن لوحته، وقد ظهر مشهد هذا الفنان المخضرم وهو يتوقّف عند أبسط التدقيقات مذهلا للغاية، خصوصا أن للجسد قوانينه التي يفرضها مرور الزمن، والتي يبدو أنور سونيا في حل من تطبيقها، أما على صعيد الاشتغال الفني فإن التجريدية هي الأخرى تطل برأسها من لوحة سونيا وتفرض سياقها على عمله، والاختيارات اللونية تُظهر المهنية العالية التي يتمتّع بها.من ناحية ثانية، ركّز بعض الفنانين على إنجاز أعمالهم بكفاءة وسرعة، فالفنان علي عزام أنهى أربع لوحات بدلا من اثنتين، وقال لـ «العرب» إنه قد جاء لـ «السمبوزيوم» مستعدا بشكل جيّد للغاية، ولذا لم يضيِّع وقته وانطلق في مشروعه مبكرا وتحولت ابتسامته غير محددة المعالم في اليوم الأول إلى أربع لوحات جميلة مزجت الواقعية بالتجريدية التعبيرية، وأظهرت مدى اشتغاله على اللون والاختيار الفني.نسويا، يبدو أن الصراع سيكون بطعم «الفلفل الأحمر» بين لوحتي الفنانتين: العراقية صبا حمزة والقطرية وضحى السليطي، حيث اختارت كلتاهما المدرسة التجريدية وفيما استوحت صبا حمزة فكرة الجدار لتصنع منها لوحة فإن وضحى السليطي قد استوحت الملابس، وبالتالي بدا الفرق واضحا في درجات الدفء اللوني بين صبا التي جاءت لوحتها خليطا بين البياض والزرقة والدفء الرمادي وبين السليطي التي كانت ألوان لوحتها دافئة للغاية، وسيكون من الصعب على أيٍّ منهما أن تحسم اللقب، كما سيكون من الصعب على لجنة التحكيم الفرز بين عملين يتشابهان في الذهنية والتنقية ويختلفان في اختيار موضوع التصميم. في اتجاه آخر يستمر الفنان إسلام كامل في استيحاء لوحاته بذات طريقة عمله في السودان، حيث يُعرف كامل لدى المطلعين على فنه بقدراته على امتصاص المضامين الثقافية الإفريقية، أو ما يُعرف بثقافة «السكان الأصليّين» وهو المذهب ذاته الذي يسير عليه في رحلته القطرية، حيث يلتقط صوره من أشكال أواني الطبخ وأدوات الاستعمال اليومي لكنه يقدّم كل ذلك بشكل تجريدي يلعب فيه اللون البنّي دوراً مهماً.وأمام هذا الكمّ من اللوحات المنتهية تقريبا فإن لجنة التحكيم ستكون «مهمومة» للغاية لدى اجتماعها المرتقَب للفصل في النتيجة النهائية، فمن جهة فرض بعض الفنانين «ريتما» عاليا على المسابقة كزمان جاسم وأنور سونيا، إذ يبدو صعبا أن يزيح أنور سونيا فنانٌ آخر غير زمان جاسم والعكس صحيح، بينما تبدو فرص البقية في منازعتها بعيدة، نظرا للمستوى العالي للغاية الذي فرضاه، أما بقية الفنانين فسوف تكون لجنة التحكيم مجبرة على التفاعل بإيجابية مع جهودهم، فعلي عزام الذي رسم بأكثر مما فعل أي فنان غيره، وأبدع في فنّه من غير المرجّح أن يخرج مبكّراً من السباق، ومثله السودانيان إسلام كامل ونور الهادي، أما الجانب النسوي من السباق، فيبدو من شبه المؤكد أن تظفر إحدى ممثلاته بجائزة ولو على سبيل حفظ الحق التمثيلي لـ «نون النسوة» في السباق، ولن يكون سهلا الفصل بين المتنافسات، خصوصا أنهن اعتمدن النوعية الفنية ذاتها، التجريد، وإن تنوّعت مصادر الاستيحاء لدى كل فنانة، كما يبدو ظاهر أن صبا حمزة ووضحى السليطي، إحداهما أو كلتاهما، ستحجز مقعدا ضمن كوكبة الأوائل.وبين هذا وذاك فإن لجنة التحكيم تباشر عملها بهدوء شديد وتلحظ تطوّر السباق دقيقة بدقيقة، فيما يبرمج الجمهور أنفاسه على توقيت المراحل النهائية التي ستكون نتيجتها الأخيرة جاهزة خلال 72 ساعة هي كل ما تبقّى من عمر أول «سمبوزيوم» تشكيلي في تاريخ قطر.

العرب القطرية
2008-07-27

الثلاثاء، 22 يوليو 2008

«سوق واقف» يؤجج المنافسة بين فناني «سمبوزيوم» الدوحة


الدوحة - شبّوب أبوطالب أطلق الفنانون العرب والقطريون المشاركون في فعاليات «سمبوزيوم الديار» مرحلة تصميم اللوحات المتنافسة على جوائزه، وكانت الساعات الأولى للانطلاقة شاهدة على تفرّد كل فنان بطريقته الخاصة، ورؤيته للأسلوب الذي يحقّق أفضل النتائج في التعاطي مع موضوع وحيد هو «سوق واقف» التي تم اختيارها كـ «تيمة» جماعية للسمبوزيوم.وقد بدا التباين واضحا بين الفنانين، فالفنان العراقي إسماعيل عزام اختار أن يكون عمله «بسيطا»، وبرأيه فإن «تيمة السوق نفسها تفرض موضوعا بسيطا، فنحن أبعد ما نكون عن موضوع يحتمل الفلسفة أو التأويل، أو ينقاد للتخريجات المعقّدة، لدينا سوق وناس يبيعون أو يشترون، وبالتالي فلا مجال للتطويل»، وعليه فإن اختياره كان أن يرسم «صورة قديمة وأخرى حديثة لسوق واقف، حيث تمثّل الصورة القديمة نظرة القطري لسوق واقف التي يعرفها المواطن القطري منذ الأيام الأولى لتأسيسها، وبالتالي فصورتها مرتبطة في الذهن بقضاء المصالح وإنجاز المعاملات، أما الصورة الحديثة فتمثّل رؤية الزائر للسوق، حيث تبدو حاليا كمكان تراثي أكثر منه مكانا تجاريا، وبالتالي فإن التركيز على رسم البناء والناس يعتبر أفضل فكرة للتعاطي مع موضوع رسمنا من وجهة نظري» كما يقول الفنان، وعلى عكس عزام فإن الفنان السعودي زمان جاسم يصرّ على أنه لم يحدّد موضوعا معيّنا للرسم، ويقول: «أرسم لأني بحاجة للاكتشاف، وأعتقد أن الرسم رحلة استكشافية في المقام الأول، وبالتالي فأنا أرسم وليس في ذهني شكل معيّن للوحة»، أما حول اهتماماته كرسام والنقاط التي يستوحيها في عمله فإنه يقول: «يستهويني اللون، خصوصا لون الأرض والأقمشة والأزياء النسائية القديمة، وأحاول أن أرسم لوحة تكون فيها رائحة الأرض ولونها وعمقها وتراثها وروحها، بحيث إذا رسمت جلسة قهوة تقليدية فإن هدفي أن أجعل المشاهد يشمّ رائحة القهوة حينما يواجه لوحتي، فهذا هو المستوى الذي أحاول الرسم لبلوغه من خلال طريقتي التي تُزَاوِجُ بين التجريد والزخرفة».ممثلتا مصر كانتا على طرفي نقيض، فالفنانة نادية معجبة تركّز على رسم الجدار باعتباره مرآة حقيقية للسوق، وتستعمل في سبيل ذلك تقنية تستلزم مهارة كبيرة، أي التعامل مع نشارة الخشب واستعمال القماش داخل جسم اللوحة، وهما مادتان تفرضان حذرا كبيرا في التعاطي معهما، بحيث إن أبسط خطأ يمكن أن يؤذي المنظر العام للوحة، نقطة يبدو أن فنانتنا منتبهة لها تماما، حيث تشتغل بهدوء شديد وبينما تعدّ موادّ رسمها فإنها تستوحي حركة الناس وألوان الأقمشة والبهارات وطريقة البناء لتصنع منها خلاصة جمالية، وفي المقابل فقد بدت مواطنتها هيام عبدالباقي منشغلة بتأمّل لوحات بيضاء! ولدى سؤال «العرب» عن سبب هذا السلوك قالت الفنانة: «أنا أستوحي لوحتي من حركة الناس داخل السوق، وحيث إنني زرتها في الصباح فقط حيث كانت الحركة التجارية منخفضة، فإنني أبعد ما أكون عن الرسم إلى أن يحل المساء وأتمكّن من مشاهدة غُدُوِّ ورواح المواطنين والزوار بداخله، وطريقة تعاملهم مع باعته ومع بعضهم وأسلوب تسويق الباعة وحينها فقط يمكنني البدء بالرسم» لتضيف لاحقا «السوق ليست البناء وحسب بل هي الناس أيضا، وبقدر أهمية البناء فإن شاغليها هم الجزء الأهم في الموضوع، خصوصا بالنسبة لي حيث أزاوج بين الأسلوبين: الانطباعي التجريدي والانطباعي التعبيري»، وكان لافتا أن الفنانة قد شغلت نفسها بالبحث عن كتب تتحدث عن تاريخ السوق أو صور قديمة لها، بما يعني أنها تود تثبيت صورة معينة عن السوق داخل ذهنها أو استكمال صورة غير مكتملة حتى اللحظة.في اتجاه آخر كان الفنان العراقي سالم مذكور منتشيا تماما، ومستعدا للإدلاء بتصريحات صحافية مستفيضة، فالرجل يشتغل على الرسم الزيتي، ما يعني أن لوحته تستلزم مرحلة صبر طويل في انتظار جهوزيتها، فترة قضاها في التعرف على نظرائه ومبادلتهم المزاح، وفي الأثناء قال لـ «العرب» إنه اختار شكل لوحته مبكرا، حيث سيرسم «صور شخصيات معيّنة مأخوذة من سوق واقف وتمثّل التناقض الكبير الذي يمثلّه العالم، فرجال مثل سائقي العربات أو باعة الخبز هم جزء لا يتجزّأ من ماضي السوق وحاضرها، إلا أن حقيقتهم ماضية وحضورهم الحالي أشبه بحضور مواد منتهية الصلاحية، هم موجودون ولكن صوريا فقط، غرباء في زمن غريب ومضطرون للتعامل مع ظروف وتكنولوجيات لم يكونوا يعتقدون يوما أنهم سيتعاملون معها، وبالتالي فإن اختيار هؤلاء كثيمة يساوي العثور على موضوع إشكالي حقيقي»، وبدا مذكور سعيدا جدا ومتحمّسا للرسم قائلا إن بإمكانه «رسم أكثر من لوحتين، فالأفكار جاهزة في ذهني، ولكن ما دام المطلوب لوحتين فقط فسأرسم لوحتين وأجتهد فيهما بالقدر الذي أستطيع.. فهذا أول عرض عامٍّ لي»!أما الفنان السوداني إسلام كامل فقد كان مشغولا على طريقته بالهم السوداني ولدى سؤاله عن موقفه من الاتهامات الموجَّهة لرئيس دولته بارتكاب جرائم حرب، ردّ قائلا «وجودي هنا نوع من الاحتجاج ورسمي نوع من الاحتجاج والذي سأرسمه نوع ثالث من الاحتجاج، فكل الذي سأفعله يمثّل موقفا»، ويبدو أن لكامل تقنية خاصة جدا في الرسم، فبينما تستكمل لوحاته الجفاف يقوم هو برسم لوحة ثالثة مصغّرة، ويقول في تبرير سلوكه «ما أفعله هو نوع من الإحماء والتسخين لذهني ويدي، فبهذه الطريقة أختصر جزءا كبيرا من وقت الرسم كما أكون في حالة نفسية وجسدية مستعدة تماما للتعامل مع اللوحة الحقيقية»، أما حول المدرسة التي سيلجأ إليها خلال فعاليات السمبوزيوم فقال «أفضّل الانطباعية التجريدية، وأركّز على فكرة الزمن كمساحة ترسم المكان وتهيّئه للتحول إلى لوحة، كما تجذبني الزخارف وديكورات الأبواب بشكل خاص، ومن هذه الثيمات جميعها أصوغ لوحتي الشخصية».وبينما يستمر الفنانون في الاشتغال فقد أبى المشرف على السمبوزيوم، الفنان محمد العتيق، إلا أن يرسم هو الآخر وليس معروفا ما إذا كان ينوي الدخول في المسابقة أم مجرّد ممارسة هوايته المفضّلة، أما الفنانة القطرية وضحى السليطي فتواصل التعاطي المرح مع نظرائها ويستمر الفنان علي عزّام في التجول صامتا راسما ابتسامة غير محدّدة الهوية على تقاسيمه البريئة.. وبين هذا وذاك تستمر المسابقة على قدم وساق، وستعود لاحقا لاستكمال الجولة بين أروقة أول سمبوزيوم تشكيلي في تاريخ قطر.
العرب القطرية
2008-07-22

الاثنين، 21 يوليو 2008

افتتاح شرس لـ"سمبوزيوم الديار" التشكيلي!


افتتح أمس "سمبوزيوم الديار" بـ"مركز وقف للفنون "، وقد أكمل الفنانون المشاركون استعداداتهم لجولة منافسة حامية، وكشّر كل منهم عن أنياب ريشته.
الدوحة ـ شبّوب أبوطالب
أعلن رئيس الجمعية القطرية للفنون التشكيلية، محمد العتيق، أمس عن الافتتاح الرسمي لفعاليات "سمبوزيزم الديار" التشكيلي، بمقر "مركز واقف للفنون"، وأكد أنها "المرة الأولى التي تحتضن فيها قطر مشروعا كهذا" ما يعني "أن على المشاركين مسؤولية كبيرة للغاية لتشريف أنفسهم و إعطاء صورة مشرقة و انطلاقة واعدة لمثل هذه التظاهرات التشكيلية"، وقال العتيق أن المشروع يعتمد على مسارين، أولهما المسار النقاشي العلمي حيث سينشّط الحاضرون فعاليات ندوة تسائِلُ قضية التراث و الحداثة، وتستشرف مستقبل التشكيل العربي في عالم متغير، أما المسار الثاني فهو مسار التسابق، حيث وقّع الفنانون عقدا مع جهات التنظيم و الرعاية، وزارة السياحة تحديدا، تلزمهم بالانتهاء من عملين فنيين خلال عشرة أيام هي مدة "السمبوزيم"، وقد أوضح العتيق أنه ضمن بنود العقد "أن يكون العمل المعني متعلّقًا بسوق واقف وليس هنالك أي مجال لعمل ثانٍ"، وفي ذات الحين "فإنه لا حدود على طريقة التناول التي يفضّلها أي فنّان، أو المقاربة التي يعتمدها، أو التقنية الفنية التي يستعملها، و إنما الأساس أن يتعلّق العمل بسوق واقف، ولكلٍ الحرية في التعامل مع موضوعه بالشكل الذي يريحه"، وحال الانتهاء من الأعمال تتسلم لجنة تحكيم كافة الأعمال وتجري تقييما نهائيا عليها، بحيث ينال ثلاث مشاركين جوائز خاصة وينال ثلاثة آخرون جوائز تقديرية.
من جهتهم كان المشاركون المبدعون متحفّزين لبدء المنافسة، حيث قال الفنان نور الهادي، من السودان، أنها "فرصة طيبة للالتقاء و التنافس مع نخبة مميزة من المبدعين العرب" واعدا بأنها سيبذل "قصارى الجهد" لتشريف نفسه وبلده، أما الفنان المخضرم أنور سونيا من سلطنة عمان فأبدى ارتياحا كبيرا "لفكرة الفعالية بحدّ ذاتها، ناهيك عن التنافس الجميل مع الزملاء من مختلف أنحاء العالم العربي، بما يضيفه ذلك إلى رصيد التجربة و الخبرة"، وهو ذات المنطق الذي تحدّث به الفنان زمان جاسم من السعودية، و الذي أبلغ الحاضرين تحيات جميع فناني التشكيل السعودي، خصوصا فناني المنطقة الشرقية، مبديا سرورا كبيرا بالمجيء إلى قطر و الدخول إلى حلبة المنافسة مع أسماء لها وقعها ورنينها في عالم التشكيل العربي.
من جهتهم تحدّث الفنانون القطريون بكثير من الثقة، حيث قالت الفنانة وضحى السليطي أنها تشعر "بالرهبة لوجود أسماء محترمة للغاية ودخولها على خطّ المنافسة" ولكنها أبدت تفاؤلا كبيرا ووعدت بـ"بذل كل الجهد الممكن للعمل على إنجاز أعمال مميزة تنال ثقة الجمهور و الحكام"، وقالت الفنانة سعاد السالم أن "التنافس سيكون جميلان كما أن الجو المتوفر يوحي بتمضية فترات عامرة بالاستفادة العلمية و الفنية"، وقال الفنان عد الرحمان المطاوعة أن تواجده في المنافسة يستهدف في المقام الأول "الاستفادة من تجارب جميع زملائنا الحاضرين، وبذات الحين العمل على تقديم مستوى مشرّف" وقد وعد هو الآخر باستخراج كامل مقدراته الفنية للتعامل مع المسابقة المفتوحة.
عمليا، نشّط مدير "السمبوزيوم" جلسة تعارف خفيفة، حيث قدّم كل فنان نفسه لزملائه بشكل موجز، ثم قاد المشاركين في جولة استكشافية بسوق واقف، وذلك لتحصيل انطباع أوّلي يفيد على مستوى استيحاء خصوصيات السوق و التعرف على معالمه، وقد رافق العتيق المشاركين بشروح وافية عن تاريخ السوق الذي يمتد إلى الأربعينات، أيام كانت منطقته عبارة عن مجرى وادٍ صغير تصب فيه أنهار"مشيرب" قبل توجهها إلى البحر، فيما ينتصب الباعة على طرفي الوادي ليقدّموا للمواطنين القطريّين ما تجود به الأرض من خيرات، ولذا فقد اشتق اسم السوق من وضعية الوقوف التي كان الباعة يمارسون بها عملهم، و بعد ذلك توسّع السوق و كثرت محلّاته، وبرغم فرص العمل الكبيرة التي وفّرها التوسع فإنه تم بشكل غير منسّق و أقرب للفوضوية، ما دعا سمو أمير البلاد، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، إلى إطلاق مشروع إعادة بناء السوق بشكله التراثي مع الحفاظ على خاصيته التجارية، وهو ما تحقق انطلاقا من سنة 2004.
وقد أبدى المشاركون لهفة كبيرة لمشاهدة أنحاء السوق والتعرف إلى قيمته التاريخية و التراثية، كما سعدوا جدًّا بالمبادرة التي قام بها مسؤول "السبموزيوم" و التي شملت تعريفهم على مجموعة من الفنانين التشكيليّين الشباب، وكذا التجوال في بعض المناطق ذات الخصوصية التراثية و التشكيلية في قطر، و تلهّفوا خصوصا لزيارة المتحف الإسلامي ومتحف المستشرقين.
يذكر أن فعاليات المسابقة انطلقت أمسية الأمس مباشرة بعد الانتهاء من إتمام الإجراءات الإدارية و التجول الخفيف في سوق واقف، وستوافيكم "العرب" بتطورات التسابق أوّلًا بأول.
العرب القطرية
21/7/2008

سلمان رشدي يثير أزمة ثقافية في السعودية



الدوحة ـ شبّوب أبوطالب شارك الروائي السعودي يوسف المحيميد قبل فترة في مؤتمر «أصوات عالمية» الذي نظمته منظمة «قلم» المرؤوسة من قبل الروائي سلمان رشدي، وضم المؤتمر حوالي خمسين كاتباً من 23 دولة، وتحدث ضيوفه عن الحرية والقمع في العالم، كما تناولوا بالتفصيل عن تجاربهم الأدبية في بلدانهم، وأثارت مشاركة المحيميد ردودَ فعل غاضبة كثيرة؛ حيث رأى منتقدوه أن الرجل قد ذهب ليصافح الشخص الذي شتم الإسلام والمسلمين، واعتدى على حرمة النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته، وولغ في عرض أمهات المؤمنين، بينما حاول المحيميد تبرير فعلته بطرق شتى.وجاءت أعلى صيحات النقد المهذب من طرف الداعية السعودي المعروف، الدكتور سلمان بن فهد العودة، والذي كتب مقالاً في صحيفة «عكاظ» بعنوان «يوسف أعرض عن هذا»!، وقد تحدث بشكل مهذّب عن فعلة المحيميد، مبتدئاً مقالته بالحديث العام عن واقع الأدب السعودي بقوله: «اتّسَعت دائرة الأعمال الروائية في المملكة، وتراوحت أسباب رَوَاج هذه الأعمال بين الإبداع الفني والأدبي، وبين ملامسة المستور والمحظور الاجتماعي..يظل الكثير من الكتاب والكاتبات أبناء فطرة وانتماء، اتفقنا معهم أو اختلفنا، وهم جزء من هذا المجتمع، الذي يحتاج في هذه المرحلة إلى تَفهّم التنوع بين أطيافه، شريطة اتفاق الجميع على القواعد الأساسية التي تحكم وجوده، وهي قواعد ثقافية وشرعية ووطنية».وتحدث بعد ذلك عن المحيميد قائلاً: «لذا فإنني أعتبر أن حضور أحدهم في مؤتمر ثقافي، ينظمه سلمان رشدي في الولايات المتحدة الأمريكية، تحت رعاية مؤسسة (قلم) التي يرأسها؛ لم يكن مقبولاً بحال...أنت لا تمثل نفسك؛ فأنت عضو في مجتمع سعودي، وانتماء عربي، ونسيج إسلامي، والرجل الذي تقابله وتحاوره هو من الاستثناءات التي يجب عزلها، وليس تقوقعاً أن ترفضه؛ كما رفضه العالم الإسلامي كله. مُرتدّ يسخر بالله ودينه وآياته ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويصوّر بيت النبوة على أنه وكر للرذيلة، ويزدري أمهات المؤمنين، وأصحاب النبي الكريم، ويتوقّح في تصوير جنسي لمقام النبوة، ووصمٍ بالشذوذ، في رواية يقول النقّاد عنها: إنها تفتقد الحسّ الأدبي، وإن انتشارها هو بسبب انتهاكها للمقدس، واستفزازها لمليار وثلاثمائة مليون مسلم، ربّما لم يحسن بعضهم التعاطي معها كما يجب، فأشهرها بدلاً من أن يتجاهلها؛ لتموت بالصمت والإعراض».ودعا العودة الروائي المحميمد للبحث عن مياه جديدة يسبح فيها بعيداً عن مستنقعات سلمان رشدي، وخاطبه بالقول: «ثَمَّتَ فرص عالمية للمشاركة، وتمثيل الإبداع الأدبي والفني، وأنت تملك روح الإبداع، والتوفّز للنجاح، وتحقيق الطّموح الإنساني، بيد أنّ يَدَك إن صافحت يداً ملوثة بالوقيعة في أعراض الأنبياء والمرسلين، وقادة الموكب الإنساني الطهور، ورجالات خَيرِ جيل، وأمهات المؤمنين المشمولات بالرضوان والرحمة؛ فإنها سوف تعثر عن مواصلة طريقها الواعد، إلا أن تستعيد جدارتها بماء الوضوء، وتتنصل من سابقتها، وتحاول الرِّيادة لتقول: جئتكم من عند هذا السبيل الذي لا بِرّ فيه ولا خير، وقد كفيتكم أمره؛ فدعوه»!أما المحيميد وبعد أن تحفّظ طويلاً حول سؤال ما إذا كان قد قابل سلمان رشدي في المؤتمر أو لا، فإنه قد نفىفي برنامج»إضاءات» التلفزيوني أنه قد قابله قائلاً: إن «رشدي لم ينظم المؤتمر، وإنما كان اسماً شرفياً فيه فقط»، ويمثل هذا التصريح تناقضاً مع تصريحه السابق الذي قال فيه: «نحن في جلسات تضم كل المشاركين بمن فيهم سلمان رشدي وكتاباً عالميين آخرين، ودعوتي لهذا المهرجان هي دعوة لصوت من العالم العربي لا أكثر»وأضاف : «رغم تقديري للشيخ العودة الذي تحول من صاحب موقف متشدد إلى موقف أكثر تسامحاً وانفتاحاً، إلا أن رسالته أقرب إلى الوصاية على تحركاتي، وهي وصاية أرفضها، وأرفض أن يحدد لي ما يجب أن أحضر أو لا أحضر».كما يمثل محاولة للتبرؤ من لقاء رشدي ومن المهرجان برمّته بعد أن دافع عنه سابقاً بالقول: «أعتقد أن سلمان رشدي يعمل في وظيفة ضمن هذا المهرجان، وهي وظيفة يمكن أن يشغلها أي شخص، وقد تنتقل من شخص لآخر، وحضوري يمثلني ويمثل ثقافتي وإبداعي، وليس بالضرورة أن أتفق مع سلمان رشدي، والكثيرين من الحضور، ولكن أنا ككاتب وأديب أقدم أدبي، بصرف النظر عن هذه الأمور، ولا يعني هذا أن أتقوقع وأجلس في البيت..المؤتمر لا يمثل سلمان رشدي، واسمه (أصوات عالمية)، ويهتم بالثقافة العالمية تحديداً، وكون رشدي أحد هؤلاء المنظمين لا يعني ذلك أن أرفض أن أشارك ضمن هذه الأصوات العالمية..هذه ليست دعوة منه إلى منزله، وحتى لو كان هذا الشخص قد تحدث بشكل سيئ عن وطني وديني فوجودي وحواري معه قد يكشف لي أشياء كانت غائبة».ما قام به المحيميد لا يمكن تصنيفه إلا في خانة شجاعة «الواحدة ونص»، فإذا كان مقتنعاً بالذهاب للمؤتمر ولقاء رشدي فلَِمَ يناقض نفسه، فمرة يوحي بأنه التقاه وثانية ينفي ذلك، ومرة يدافع عن المؤتمر وكأنه هو راعيه، وثانية يقول إنه مناسبة ثقافية عادية، ومرّة يقول إن رشدي كان حاضراً حضوراً شرفياً، وثانية يقول إنه هو المنظّم!... وهذا التخبط في الرأي، وعدم القدرة على الاستناد على أساس صلب لا يمثل استثناءً ولا «إنجازاً شخصياً» لصالح المحيميد، بل هو الصفة الغالبة على كثير من المثقفين العرب، وبالأخص السعوديين حيث لم يتم الحسم حتى هذه اللحظة في الأسلوب الأمثل للتعاطي مع ملف الثقافة، ففي وقت سابق كانت مشاركة المحيميد ستجرّ عليه ويلات التكفير وربما القتل، أما الآن فالمملكة في مرحلة وسطى تتحرّك فيها، ولكن بخطى غير متوازية على كلّ الأصعدة، وهو ما يعني أن لا شيء محسوم، والكتاب غيرُ قادرين على اتخاذ خطوات جذرية، طالما أن الدولة بهياكلها الرسمية لم تنخرط في مسيرة التحديث، ولازالت تقف حائرة أمام قضية بسيطة كقيادة المرأة للسيارة!يذكر أن المحيميد من مواليد الرياض 1964م، وقد مارس الرسم والتصوير في صغره، ونشر أربع روايات حققت له شهرة معقولة في العالمين العربي و الغربي، وهي: «نزهة الدلافين» و«لغط الموتى» و«فخاخ الرائحة» و«القارورة».
العرب القطرية
2008-07-19

فنانون تشكيليون عرب يفتتحون «السمبوزيوم» اليوم




الدوحة - شبّوب أبوطالب
تنطلق اليوم في حدود الساعة العاشرة والنصف فعاليات «سمبوزيوم الديار» الذي تنظمه مجموعة «الديار» القطرية الاستثمارية ويرعاه كل من «مركز واقف للفنون» و «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية».يحتضن السمبوزيوم، وهو مصطلح فني يعني الندوة، تجارب أكثر من 14 فنانا قدموا من مختلف أنحاء قطر والخليج والعالم العربي، وينظّم على شكل ورشة مفتوحة للرسم، تتخللها ندوة ومسابقة يشارك فيها جميع الفنانين الحاضرين، كما سيكون ممكنا للجمهور مشاهدة الفنانين في أثناء اشتغالهم والاستفسار لديهم عن أية قضايا تشكيلية، ناهيك عن الإسهام في الندوة التي ستُعقد بعنوان «أسئلة التراث وتحديات الحداثة»، ومرافقة الفنانين خلال جولاتهم التي ستذهب إلى «متحف المستشرقين» ومواقع تراثية عدَّة، ومؤسسات ثقافية منها «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية» و «الجمعية القطرية للتصوير الضوئي» و «مركز الفنون البصرية» و «مركز الإبداع الشبابي» و «مركز إبداع الفتاة».ويضم السمبوزيوم نخبة من الفنانين المتميزين، وبينهم الفنانة القطرية وضحى السليطي المتخرجة في جامعة قطر، تخصص «فنون جميلة»، والتي تتنوع اهتماماتها بين الرسم وتصميم الأزياء والنشاط الأهلي، حيث كانت إحدى مؤسِّسات مركز إبداع الفتاة، وعضولجنة تحكيم معرض الأزياء المعاصرة الذي احتضنته فرنسا سنة 2007، ومؤسسة أول معرض تشكيلي بسوق واقف -معرض «الروشنة»- كما اشتملت مسيرتها على العديد من المعارض الفردية والجماعية.ويحضر من المقيمين الفنان إسلام كامل علي عبدالرحمن، وهو أحد طلاب الدفعة التاسعة والأربعين لكلية «الفنون الجميلة والتطبيقية» السودانية، ويشتغل حاليا بالدوحة مديرا لتسويق إحدى المجموعات الاستثمارية، ويميل في رسمه إلى الناحية التجريدية بشكل كبير، ومثله الفنان محمود العبيدي، الذي تخرج في جامعة بغداد للفنون الجميلة، وأنهى دراسات الماجستير الفني بكندا، كما تعلم الإخراج السينمائي وفنيات الإعلام والإنتاج السمعي البصري، وغطّت معارضه الشخصية والجماعية مساحات شاسعة في أوروبا وأميركا والعالم العربي، حيث عرض بسويسرا وألمانيا وفرنسا وأميركا والأردن وبريطانيا وبولندا وإسبانيا وكندا والدنمارك وهولندا وتونس وتايلاند والمغرب والهند... إلخ، وحاز العديد من الجوائز كالجائزة الأولى لـ «معرض الصليب الأحمر الدولي للغرافيك» و «جائزة الحكام» لـ «مهرجان الواسطي» العراقي، وجائزة «خوج» الهندية و «كانسل» الكندية.كما يمثل العراق أيضا الفنان إسماعيل عزام وهو أحد ناشطي «متحف المستشرقين» ومن رواد الفن التشكيلي العراقي الحديث، ويُعرف عنه إلمامه الكبير بمختلف المدارس الفنية وكذا براعته الواضحة في فن «البورتريه»، مما دعا منظمي «مهرجان الدوحة» لاعتباره الفنان الرسمي للمهرجان وكلفوه برسم بورتريهات لجميع الفنانين المشاركين في فعاليات المهرجان.ويحضر من سلطنة عمان الفنان المخضرم أنور سونيا وهو من مواليد 1948 ويمثل واحدا من الفنانين الكبار في سلطنة عمان، وذلك لتقنياته العالية وكذا رصيده الفني العريض والذي جال به العالم من الكويت إلى تركيا إلى العراق إلى البحرين إلى اليابان فأميركا فكوريا فاليونان فهولندا فلبنان... إلخ، ولا شكّ أن حضوره سيكون خير إثراء لفعاليات السمبوزيوم بما يقدمه من تجربة وخبرة لبقية الفنانين ولسائر الحاضرين.أما من البحرين فيحضر الفنان الشاب جعفر العريبي الذي حاز على الجائزة الأولى للتصوير الزيتي خلال فعاليات «المؤتمر الإبداعي الثاني لطلبة جامعات الدول العربية»، ناهيك عن المركز الأول لمسابقة «الطباعة اليدوية» التي نظمتها وزارة التربية والتعليم بالبحرين، والذي يمازج بين الغرافيك والرسم بالزيت على القماش.ويحضر من المملكة العربية السعودية الفنان زمان جاسم وهو من مواليد 1971، وقد أنجز الكثير خلال سني حياته القليلة، فقد عرض في جميع أنحاء بلده، كما قدم معارض شخصية وجماعية في العديد من البلدان كالبحرين، الكويت، الإمارات، قطر، مصر، سوريا، تونس، لندن، ألمانيا، بلجيكا، إسبانيا، سويسرا، الصين، جمهورية المجر... إلخ، كما حاز على استضافة المدينة الدولية للفنون بباريس عام 2004، وكان أحد رسّامي «مشروع أصدقاء الدببة الدولي» الذي نظمته ألمانيا، وحاز العديد من الجوائز وبينها:جائزة «السعفة الفضية» للمعرض الدوري الثامن لمجلس التعاون (مسقط 2006م)، والجائزة الرابعة لـ «مسابقة السفير» الأولى (2002)، والجائزة الثالثة لمعرض «باحة» للفنون، والجائزة الأولى لمسابقة الخطوط السعودية الخامسة (2001).ويمثّل الفنان علي عزام فناني فلسطين، وهو من مواليد الدوحة عام 1970، فنان متفرغ، وعضو «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية» و «المركز الشبابي للإبداع الفني»، وقد أقام العديد من المعارض بالمركز الثقافي الفرنسي وجامعة قطر وشارك في جدارية «المحبة والسلام» التي دخلت «موسوعة غينيس» باعتبارها أكبر جدارية فنية في العالم.أما من مصر فإن الفنانة هيام عبدالباقي ستكون سفيرة الريشة الفرعونية، وهي من مواليد منطقة كفر الشيخ عام 1972، وتعمل حاليا أستاذة مساعدة بأكاديمية «الفن والتصميم» المصرية، وتملك عضوية نقابة الفنانين التشكيليّين، وقد عُرفت بمشاركتها الدورية في المعارض العالمية كـ «ترينالي الحفر الدولي» الذي تحتضنه مدينة كراكوف البولندية، حيث تمت استضافتها ثلاث مرات متتالية، ومثلها في «بينالي الحفر الدولي» ببلغاريا، وأمثاله في اليونان وفرنسا والنمسا. ومع هذه النخبة من الفنانين وغيرهم، فإن حرارة التسابق ستكون مضمونة ومثلها حرارة النقاش الذي سيكون بطعم المشاكسة والرغبة في تقديم الأفضل للريشة القطرية والعربية.
العرب القطرية
2008-07-21

السبت، 19 يوليو 2008

رسالة اليونسكو تتحدث عن جديد قائمة التراث العالمي!

خصّصت رسالة "اليونسكو" عددها الجديد للحديث عن بعض مواقع التراثية العالمية، والتفتت على الخصوص للإضافات الجديدة على القائمة الدولية.

الدوحة ـ شبّوب أبوطالب

توقف العدد الجديد من "رسالة اليونسكو" عند جبل المورن التاريخي الواقع غرب موريشيوس، وتذكر كيف أن الجبل البركاني كان منذ القرن 17 حتى إلغاء الاتجار بالرقيق العام 1835، وقد حاول هؤلاء دوما الفرار باتجاه الجبل الذي يوفّر ملاذا آمنا من المطاردة، وبرغم النهاية المأساوية لبعض محاولات الفرار فإن حوالي الـ2000 عبدا ظلوا معتصمين بالجبل وتحولوا إلى جزء من النسيج السكاني المحلّي.

كما تناول العدد مواقع الكنيسة الأرمنية بأذربيجان، وخص بالذكر دِيراً يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر، و يتألف من موقعين كنسيين متجاورين، إحداهما تدعى "السوداء" يرجّح أنها بنيت في العام 1329 و الثانية تسمى"البيضاء" وتم بناؤها بين عامي 1810 و1830، وتعد الكنيستان إرثا تاريخيا مهما، لجهة القيمة الدينية وكذا المعمارية، ذلك أنها تعكسان فن القرون الوسطى و"عصور الأنوار" التي هلّت على أوروبا مطلع القرن السادس عشر، وتوثّقان الاتجاهات المعمارية في تلك الفترة.

وتوقف العدد أيضا عند مدينة كاماغواي، مسقط رأس شاعر كوبا القومي، نيكولاس غيين، ورصد مبانيها المزينة بالقرميد الأحمر، و العادات المعمارية الخاصة بأهلها كالبراميل الكبيرة التي كان "الماغوايين" يصنعونها ويضعونها في الأفنية و الحدائق بغرض تخزين الماء والاستفادة منه، وحفظه بعيدا عن الأوبئة و الجراثيم.

وعلى ذات النسق كتبت رسالة اليونسكو عن مستنقعات كوك الواقعة في غينيا و التي اتضح أنها المهد الأول للزراعة في العام، و جزيرة سورتسي (آيسلندا)، التي تعد أعجوبة حقيقية، إذ أنها كانت مطمورة تحت أعماق المحيط ثم طفت إلى السطح عام 1963، ومن يومها أصبحت مقصد علميا كبيرا يدمن عليه خبراء التنوع البيولوجي و الراغبون في استكشاف أنواع غير معروفة من النباتات و الحشرات التي لا تتوفر في أي بيئة أخرى.

وكانت اليونسكو قد أعلنت في الأسبوع الأول من الشهر الجاري أن "لجنة التراث العالمي" التي عقدت دورتها الثانية والثلاثين في منطقة الكيبيك بكندا، قد وافقت بشكل نهائي على إضافة 4 مواقع جديدة لقائمة الحماية الدولية، وتشمل المواقع الجديدة كلا من جبل المورن بجزر مويس، ومنازل واقعة بمحافظة فيجان الصينية و موقع "مدائن صالح" الواقع بالمملكة العربية السعودية، ومنطقة الكنائس الأرمينية بأذربيجان، وقد جاءت هذه الاختيارات عطفا على الطلبات التي تقدمت بها 41 دولة موقِّعة على اتفاقية التراث العالمي وشملت 13 موقعا طبيعيا و 34 موقعا ثقافيا اقترحت الدول الموقِّعة شملها بحماية قائمة التراث العالمي وتوفير الحماية القانونية اللازمة لها، إلا أن اليونسكو لم تضف سوى أربع مواقع.

ومثل تصرف اليونسكو الأخير نصرا كبيرا للعرب، لأن إضافة موقع عربي إلى القائمة يمثّل تخليا عن السلوك الرسمي العربي الذي طالما رفض التعاون مع اليونسكو لسبب أو لآخر فبعض الدول العربية رأت أنها تملك من الإمكانات المالية و القانونية ما يجعلها في غنى تام عن أي تعاون مع اليونسكو وينسحب هذا الوصف على بعض دول الخليج العربي، أما بعض الدول الأخرى فإن مصالحها التراثية لا تلقي بالا لأهمية الموضوع أصلا، فيما تحتكم دول ثالثة على نظرة يشوبها الشك في دوافع اليونسكو كالجزائر التي رفضت تركيز اليونسكو على رعاية الآثار الرومانية ورفضها حماية الآثار الإسلامية ما قاد وزيرة ثقافتها إلى اتهام خبراء اليونسكو علنا بأنهم "جواسيس لا علماء"!، ويبدو أن المحاولة السعودية الأخيرة تمثل خروجا من نفق الشك والكسل الذي دخلته دولنا العربي برمتها.

وتنبع أهمية التعاون مع اليونسكو من بديهية قانونية تتفرع عنها الكثير من المزايا الحمائية والمالية و السياحية، وتفترض البديهية أن لا دول بإمكانها أن تفتخر بتراثها الضارب في العراقة و تسعى لجعله مقصدا عالميا دون أن تعرّف به، أو تسعى لتصنيفه كأثر ذي صبغة عالمية وإنسانية، ويتفرع عن هذا التصنيف، الذي يقدم في شكل طلب من طرف سلطات البلد، إضافة الأثر المعني إلى قائمة "التراث العالمي" بعد مداولات تستشار خلالها هيئتا "المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية" و"الاتحاد العالمي لصون الطبيعة"و تشترك فيها الدول الـ 21 الأعضاء في لجنة التراث العالمي ليتم التصويت بالأغلبية، وتمثّل مرحلة التصويت مرحلة جدّ هامة إذ أنه على الدولة المعنية بإضافة تراثها أن تقود حملة دعائية داخل لجنة التراث العالمي لتضمن وصولها إلى قائمة الترشيحات النهائية وهي قائمة معقّدة للغاية، ويمكن أن نأخذ مثلا ما حدث هذه السنة فمن بين 43 طلبا لم توافق اليونسكو سوى على إضافة 4 مواقع! و لذا تتصارع الدول أيضا على عضوية لجنة التراث العالمي التي تمثل الجهة التي تفصل في الطلبات ومن المؤسف أن عددا قليلا من الدول العربية أبدت سعيها لعضوية اللجنة وهي مصر وتونس و الجزائر..بينما زهدت فيها بقية الدول.

ويترتب على إضافة أي موقع إلى قائمة التراث العالمي إصدار تعميم عالمي بحمايته والمحافظة عليه، بحيث يصبح تحت بصر اليونسكو، ومن خلفها الأمم المتحدة، ويحرّم المساس به أو تشويهه، كما يمكن للدولة التي تحتضنه أن تقدم طلبات للحصول على اعتمادات مالية لرعايته وتطويره، وهي الميزة التي لا تستعملها غالبية دولنا العربية رغم أن جزءًا كبيرا منها يدفع اشتراكاتها لهيئات اليونسكو المختصة، بما يعني أننا نموّل مشاريع صيانة تراث العالم وتراثنا مرمي مهمل! كما يعني أننا نضحي سنويا بمبلغ 4 ملايين دولار يصرفها "صندوق التراث العالمي" للدول التي تقدم طلبات "ترميم طارئ" لمواقعها المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي.

وإضافة إلى المزايا الحمائية القانونية و المالية التي تترتب على إضافة موقع مّا إلى القائمة الدولية فإن هناك مزية سياحية تنشأ من خلال الإشهار العالمي المجاني الذي يحصل عليه الموقع و الاهتمام الكبير الذي يلقاه من طرف وسائل الإعلام، وهو اهتمام يمكن استخدامه لاستجلاب السواح بسهولة خصوصا أن عبارة "موقع مصنف ضمن قائمة التراث الإنساني" تفعل فعلها في السائح العالمي و الأوروبي خصوصا.

كما يتقدم اليونسكو تدريبا مهنيا عاليا ومجانيا لكوادر هيئات صيانة الآثار في الدول التي تحتوي مواقع ذات تنصيف دولي، و التي تشمل 141 دولة، والحال في هذه كما في سابقاتها إذ أن قلة من الدول العربية من تستعمل هذه الخاصية، فيما تبادر إلى التعاون مع هيئات التنقيب الآثاري الدولية، كما يحدث هنا في قطر حيث أن آخر اكتشاف أثري قطري قد جرى بأيدٍ دانماركية بينما لو تم التعاون مع اليونسكو لكان ممكنا أن يتم بأيدٍ وطنية تجعل الفرحة فرحتين.

يذكر أن قائمة التراث العالمي تشمل 851 موقعا ذات "قيمة عالمية استثنائية"، تنقسم إلى 166 موقعا طبيعيا، و 25 موقعا مختلطا، و660 موقعا ثقافيا.

العرب -18-7-2008

سلمان رشدي يثير أزمة ثقافية في السعودية



الدوحة ـ شبّوب أبوطالب شارك الروائي السعودي يوسف المحيميد قبل فترة في مؤتمر «أصوات عالمية» الذي نظمته منظمة «قلم» المرؤوسة من قبل الروائي سلمان رشدي، وضم المؤتمر حوالي خمسين كاتباً من 23 دولة، وتحدث ضيوفه عن الحرية والقمع في العالم، كما تناولوا بالتفصيل عن تجاربهم الأدبية في بلدانهم، وأثارت مشاركة المحيميد ردودَ فعل غاضبة كثيرة؛ حيث رأى منتقدوه أن الرجل قد ذهب ليصافح الشخص الذي شتم الإسلام والمسلمين، واعتدى على حرمة النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته، وولغ في عرض أمهات المؤمنين، بينما حاول المحيميد تبرير فعلته بطرق شتى.وجاءت أعلى صيحات النقد المهذب من طرف الداعية السعودي المعروف، الدكتور سلمان بن فهد العودة، والذي كتب مقالاً في صحيفة «عكاظ» بعنوان «يوسف أعرض عن هذا»!، وقد تحدث بشكل مهذّب عن فعلة المحيميد، مبتدئاً مقالته بالحديث العام عن واقع الأدب السعودي بقوله: «اتّسَعت دائرة الأعمال الروائية في المملكة، وتراوحت أسباب رَوَاج هذه الأعمال بين الإبداع الفني والأدبي، وبين ملامسة المستور والمحظور الاجتماعي..يظل الكثير من الكتاب والكاتبات أبناء فطرة وانتماء، اتفقنا معهم أو اختلفنا، وهم جزء من هذا المجتمع، الذي يحتاج في هذه المرحلة إلى تَفهّم التنوع بين أطيافه، شريطة اتفاق الجميع على القواعد الأساسية التي تحكم وجوده، وهي قواعد ثقافية وشرعية ووطنية».وتحدث بعد ذلك عن المحيميد قائلاً: «لذا فإنني أعتبر أن حضور أحدهم في مؤتمر ثقافي، ينظمه سلمان رشدي في الولايات المتحدة الأمريكية، تحت رعاية مؤسسة (قلم) التي يرأسها؛ لم يكن مقبولاً بحال...أنت لا تمثل نفسك؛ فأنت عضو في مجتمع سعودي، وانتماء عربي، ونسيج إسلامي، والرجل الذي تقابله وتحاوره هو من الاستثناءات التي يجب عزلها، وليس تقوقعاً أن ترفضه؛ كما رفضه العالم الإسلامي كله. مُرتدّ يسخر بالله ودينه وآياته ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويصوّر بيت النبوة على أنه وكر للرذيلة، ويزدري أمهات المؤمنين، وأصحاب النبي الكريم، ويتوقّح في تصوير جنسي لمقام النبوة، ووصمٍ بالشذوذ، في رواية يقول النقّاد عنها: إنها تفتقد الحسّ الأدبي، وإن انتشارها هو بسبب انتهاكها للمقدس، واستفزازها لمليار وثلاثمائة مليون مسلم، ربّما لم يحسن بعضهم التعاطي معها كما يجب، فأشهرها بدلاً من أن يتجاهلها؛ لتموت بالصمت والإعراض».ودعا العودة الروائي المحميمد للبحث عن مياه جديدة يسبح فيها بعيداً عن مستنقعات سلمان رشدي، وخاطبه بالقول: «ثَمَّتَ فرص عالمية للمشاركة، وتمثيل الإبداع الأدبي والفني، وأنت تملك روح الإبداع، والتوفّز للنجاح، وتحقيق الطّموح الإنساني، بيد أنّ يَدَك إن صافحت يداً ملوثة بالوقيعة في أعراض الأنبياء والمرسلين، وقادة الموكب الإنساني الطهور، ورجالات خَيرِ جيل، وأمهات المؤمنين المشمولات بالرضوان والرحمة؛ فإنها سوف تعثر عن مواصلة طريقها الواعد، إلا أن تستعيد جدارتها بماء الوضوء، وتتنصل من سابقتها، وتحاول الرِّيادة لتقول: جئتكم من عند هذا السبيل الذي لا بِرّ فيه ولا خير، وقد كفيتكم أمره؛ فدعوه»!أما المحيميد وبعد أن تحفّظ طويلاً حول سؤال ما إذا كان قد قابل سلمان رشدي في المؤتمر أو لا، فإنه قد نفىفي برنامج»إضاءات» التلفزيوني أنه قد قابله قائلاً: إن «رشدي لم ينظم المؤتمر، وإنما كان اسماً شرفياً فيه فقط»، ويمثل هذا التصريح تناقضاً مع تصريحه السابق الذي قال فيه: «نحن في جلسات تضم كل المشاركين بمن فيهم سلمان رشدي وكتاباً عالميين آخرين، ودعوتي لهذا المهرجان هي دعوة لصوت من العالم العربي لا أكثر»وأضاف : «رغم تقديري للشيخ العودة الذي تحول من صاحب موقف متشدد إلى موقف أكثر تسامحاً وانفتاحاً، إلا أن رسالته أقرب إلى الوصاية على تحركاتي، وهي وصاية أرفضها، وأرفض أن يحدد لي ما يجب أن أحضر أو لا أحضر».كما يمثل محاولة للتبرؤ من لقاء رشدي ومن المهرجان برمّته بعد أن دافع عنه سابقاً بالقول: «أعتقد أن سلمان رشدي يعمل في وظيفة ضمن هذا المهرجان، وهي وظيفة يمكن أن يشغلها أي شخص، وقد تنتقل من شخص لآخر، وحضوري يمثلني ويمثل ثقافتي وإبداعي، وليس بالضرورة أن أتفق مع سلمان رشدي، والكثيرين من الحضور، ولكن أنا ككاتب وأديب أقدم أدبي، بصرف النظر عن هذه الأمور، ولا يعني هذا أن أتقوقع وأجلس في البيت..المؤتمر لا يمثل سلمان رشدي، واسمه (أصوات عالمية)، ويهتم بالثقافة العالمية تحديداً، وكون رشدي أحد هؤلاء المنظمين لا يعني ذلك أن أرفض أن أشارك ضمن هذه الأصوات العالمية..هذه ليست دعوة منه إلى منزله، وحتى لو كان هذا الشخص قد تحدث بشكل سيئ عن وطني وديني فوجودي وحواري معه قد يكشف لي أشياء كانت غائبة».ما قام به المحيميد لا يمكن تصنيفه إلا في خانة شجاعة «الواحدة ونص»، فإذا كان مقتنعاً بالذهاب للمؤتمر ولقاء رشدي فلَِمَ يناقض نفسه، فمرة يوحي بأنه التقاه وثانية ينفي ذلك، ومرة يدافع عن المؤتمر وكأنه هو راعيه، وثانية يقول إنه مناسبة ثقافية عادية، ومرّة يقول إن رشدي كان حاضراً حضوراً شرفياً، وثانية يقول إنه هو المنظّم!... وهذا التخبط في الرأي، وعدم القدرة على الاستناد على أساس صلب لا يمثل استثناءً ولا «إنجازاً شخصياً» لصالح المحيميد، بل هو الصفة الغالبة على كثير من المثقفين العرب، وبالأخص السعوديين حيث لم يتم الحسم حتى هذه اللحظة في الأسلوب الأمثل للتعاطي مع ملف الثقافة، ففي وقت سابق كانت مشاركة المحيميد ستجرّ عليه ويلات التكفير وربما القتل، أما الآن فالمملكة في مرحلة وسطى تتحرّك فيها، ولكن بخطى غير متوازية على كلّ الأصعدة، وهو ما يعني أن لا شيء محسوم، والكتاب غيرُ قادرين على اتخاذ خطوات جذرية، طالما أن الدولة بهياكلها الرسمية لم تنخرط في مسيرة التحديث، ولازالت تقف حائرة أمام قضية بسيطة كقيادة المرأة للسيارة!يذكر أن المحيميد من مواليد الرياض 1964م، وقد مارس الرسم والتصوير في صغره، ونشر أربع روايات حققت له شهرة معقولة في العالمين العربي و الغربي، وهي: «نزهة الدلافين» و«لغط الموتى» و«فخاخ الرائحة» و«القارورة».
العرب القطرية ـ 2008-07-19

رسالة اليونسكو تتحدث عن جديد قائمة التراث العالمي


الدوحة - شبّوب أبوطالب
توقف العدد الجديد من «رسالة اليونسكو» عند جبل المورن التاريخي الواقع غرب موريشيوس، وتذكر كيف أن الجبل البركاني كان منذ القرن الـ 17 حتى إلغاء الاتجار بالرقيق عام 1835، وقد حاول هؤلاء دوما الفرار باتجاه الجبل الذي يوفّر ملاذا آمنا من المطاردة، وبرغم النهاية المأساوية لبعض محاولات الفرار فإن حوالي 2000 عبد ظلوا معتصمين بالجبل وتحولوا إلى جزء من النسيج السكاني المحلّي.كما تناول العدد مواقع الكنيسة الأرمينية بأذربيجان، وخص بالذكر دِيراً يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر، ويتألف من موقعين كنسيين متجاورين، إحداهما تدعى «السوداء» يرجّح أنها بُنيت في العام 1329 والثانية تسمى»البيضاء» وتم بناؤها بين عامي 1810 و1830، وتعتبر الكنيستان إرثا تاريخيا مهما، لجهة القيمة الدينية وكذا المعمارية، ذلك أنهما تعكسان فن القرون الوسطى و «عصور الأنوار» التي هلّت على أوروبا مطلع القرن السادس عشر، وتوثّقان الاتجاهات المعمارية في تلك الفترة.وتوقف العدد أيضا عند مدينة كاماغواي، مسقط رأس شاعر كوبا القومي، نيكولاس غيين، ورصد مبانيها المزينة بالقرميد الأحمر، والعادات المعمارية الخاصة بأهلها كالبراميل الكبيرة التي كان «الماغوايون» يصنعونها ويضعونها في الأفنية والحدائق بغرض تخزين الماء والاستفادة منه، وحفظه بعيدا عن الأوبئة والجراثيم.وعلى النسق ذاته كتبت رسالة اليونسكو عن مستنقعات كوك الواقعة في غينيا والتي اتضح أنها المهد الأول للزراعة في العالم، وجزيرة سورتسي (آيسلندا)، التي تعتبر أعجوبة حقيقية، إذ إنها كانت مطمورة تحت أعماق المحيط ثم طفت إلى السطح عام 1963، ومن يومها أصبحت مقصدا علميا كبيرا يدمنه خبراء التنوع البيولوجي والراغبون في استكشاف أنواع غير معروفة من النباتات والحشرات التي لا تتوافر في أية بيئة أخرى.كانت اليونسكو قد أعلنت في الأسبوع الأول من الشهر الجاري عن أن «لجنة التراث العالمي» التي عقدت دورتها الثانية والثلاثين في منطقة الكيبيك بكندا، قد وافقت بشكل نهائي على إضافة 4 مواقع جديدة لقائمة الحماية الدولية، وتشمل المواقع الجديدة كلاًّ من: جبل المورن بجزر مويس، ومنازل واقعة بمحافظة فيجان الصينية، وموقع «مدائن صالح» الواقع بالمملكة العربية السعودية، ومنطقة الكنائس الأرمينية بأذربيجان، وقد جاءت هذه الاختيارات عطفا على الطلبات التي تقدمت بها 41 دولة موقِّعة على اتفاقية التراث العالمي وشملت 13 موقعا طبيعيا و34 موقعا ثقافيا اقترحت الدول الموقِّعة شملها بحماية قائمة التراث العالمي وتوفير الحماية القانونية اللازمة لها، إلا أن اليونسكو لم تضف سوى أربعة مواقع.ومثَّل تصرف اليونسكو الأخير نصرا كبيرا للعرب، لأن إضافة موقع عربي إلى القائمة تمثّل تخليا عن السلوك الرسمي العربي الذي طالما رفض التعاون مع اليونسكو لسبب أو لآخر، فبعض الدول العربية رأت أنها تملك من الإمكانات المالية والقانونية ما يجعلها في غنى تام عن أي تعاون مع اليونسكو وينسحب هذا الوصف على بعض دول الخليج العربي، أما بعض الدول الأخرى فإن مصالحها التراثية لا تلقي بالا لأهمية الموضوع أصلا، فيما تحتكم دول ثالثة على نظرة يشوبها الشك في دوافع اليونسكو كالجزائر التي رفضت تركيز اليونسكو على رعاية الآثار الرومانية ورفضها حماية الآثار الإسلامية، ما قاد وزيرة ثقافتها إلى اتهام خبراء اليونسكو علنا بأنهم «جواسيس لا علماء»!، ويبدو أن المحاولة السعودية الأخيرة تمثل خروجا من نفق الشك والكسل الذي دخلته دولنا العربية برمتها.وتنبع أهمية التعاون مع اليونسكو من بديهية قانونية تتفرع عنها الكثير من المزايا الحمائية والمالية والسياحية، وتفترض البديهية أنه لا دول بإمكانها أن تفتخر بتراثها الضارب في العراقة وتسعى لجعله مقصدا عالميا من دون أن تعرّف به، أو تسعى لتصنيفه كأثر ذي صبغة عالمية وإنسانية، ويتفرع عن هذا التصنيف، الذي يقدَّم في شكل طلب من طرف سلطات البلد، إضافة الأثر المعني إلى قائمة «التراث العالمي» بعد مداولات تستشار خلالها هيئتا «المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية» و «الاتحاد العالمي لصون الطبيعة» وتشترك فيها الدول الـ 21 الأعضاء في لجنة التراث العالمي ليتم التصويت بالأغلبية، وتمثّل مرحلة التصويت مرحلة جدّ مهمة، إذ إنه على الدولة المعنية بإضافة تراثها أن تقود حملة دعائية داخل لجنة التراث العالمي لتضمن وصولها إلى قائمة الترشيحات النهائية وهي قائمة معقّدة للغاية، ويمكن أن نأخذ مثلا ما حدث هذه السنة، فمن بين 43 طلبا لم توافق اليونسكو سوى على إضافة 4 مواقع! ولذا تتصارع الدول أيضا على عضوية لجنة التراث العالمي التي تمثل الجهة التي تفصل في الطلبات ومن المؤسف أن عددا قليلا من الدول العربية أبدت سعيها لعضوية اللجنة وهي: مصر وتونس والجزائر.. بينما زهدت فيها بقية الدول.ويترتب على إضافة أي موقع إلى قائمة التراث العالمي إصدار تعميم عالمي بحمايته والمحافظة عليه، بحيث يصبح تحت بصر اليونسكو، ومن خلفها الأمم المتحدة، ويحرَّم المساس به أو تشويهه، كما يمكن للدولة التي تحتضنه أن تقدم طلبات للحصول على اعتمادات مالية لرعايته وتطويره، وهي الميزة التي لا تستعملها غالبية دولنا العربية رغم أن جزءا كبيرا منها يدفع اشتراكاتها لهيئات اليونسكو المختصة، بما يعني أننا نموّل مشاريع صيانة تراث العالم وتراثنا مرمي مهمل! كما يعني أننا نضحي سنويا بمبلغ 4 ملايين دولار يصرفها «صندوق التراث العالمي» للدول التي تقدم طلبات «ترميم طارئ» لمواقعها المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي.وإضافة إلى المزايا الحمائية القانونية والمالية التي تترتب على إضافة موقعٍ ما إلى القائمة الدولية فإن هناك مزية سياحية تنشأ من خلال الإشهار العالمي المجاني الذي يحصل عليه الموقع والاهتمام الكبير الذي يلقاه من طرف وسائل الإعلام، وهو اهتمام يمكن استخدامه لاستجلاب السيَّاح بسهولة، خصوصا أن عبارة «موقع مصنَّف ضمن قائمة التراث الإنساني» تفعل فعلها في السائح العالمي والأوروبي خصوصا.كما تقدم اليونسكو تدريبا مهنيا عاليا ومجانيا لكوادر هيئات صيانة الآثار في الدول التي تحتوي مواقع ذات تنصيف دولي، والتي تشمل 141 دولة، والحال في هذه كما في سابقاتها، إذ إن قلة من الدول العربية من تستعمل هذه الخاصية، فيما تبادر إلى التعاون مع هيئات التنقيب الآثاري الدولية، كما يحدث هنا في قطر، حيث إن آخر اكتشاف أثري قطري قد جرى بأيدٍ دنماركية بينما لو تم التعاون مع اليونسكو لكان ممكنا أن يتم بأيدٍ وطنية تجعل الفرحة فرحتين.يُذكر أن قائمة التراث العالمي تشمل 851 موقعا ذات «قيمة عالمية استثنائية»، تنقسم إلى 166 موقعا طبيعيا، و25 موقعا مختلطا، و660 موقعا ثقافيا.
العرب القطرية
2008-07-16

في شعر الأسر والسجن والتحرير

الدوحة ـ شبّوب أبوطالب
جاء تحرير الأسرى بالأمس في لبنان خاتمة لمآسٍ طويلة رسمت آثارها في قلوب وعقول عشرات الأحياء والأموات الذين «استضافتهم» زنازين و «مقابر الأرقام» في كيان العدو، وهو يحيي في التاريخ العربي جزءا جميلا من ذاكرته الشعرية، وهي تلك الذاكرة الخصبة التي أثراها عشرات الشعراء الذين أسروا وهم يقاتلون على ظهور خيلهم أو اختطفوا من بين أهلهم وأولادهم وذاقوا مرارة الحرمان وقسوة السجان.ومن بين القصص الجميلة التي يذكرها التاريخ قصة الصحابي خبيب بن عدي وهو فارس من فرسان قبيلة الأوس، وبطل من أبطال غزوة بدر، كما كان عضوا في «القوات الخاصة» للرسول الأكرم (ص)، ومن بين المهام التي أوكلت إليه رفقة أعضاء فرقته كانت مهمة قادها عاصم بن ثابت، وتحدد واجبها بالحصول على معلومات حول الاستعدادات الحربية التي تجريها قريش، وضمت الفرقة 10 من الفرسان الأبطال، ولعل التفاصيل تظهر صعوبة المهمة إذ اكتشفت «سرية الاستطلاع» واستشهد غالبية أفرادها، أما خبيب بن عدي فقد أخذ أسيرا، ولأسره قصة فهو قاتل الحارث بن عامر بن نوفل، أحد فرسان قريش، ولذا فقد قرر أهله الانتقام، وحبس الفارس لدى قريش لفترة ريثما تمت صفقة بيعه لـ «ذوي الدم»، ومن ثمَّ قتله، ولعل الرجل قد كتب الكثير خلال فترة أسره لكن التاريخ لم يحفظ لنا إلا بضعة أبيات قالها أثناء «تحضيره» لعملية الإعدام، إذ ظنّ سجّانوه أنه سيخاف القتل، فما كان منه إلا أن ارتجل: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أي جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِيوَذَلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شَلْوٍ ممَزَّعِوكانت تلك خاتمة المطاف لجندي شاعر وفارس مهاب الجانب، خاتمة جسدت جلد الجندي المسلم حين الأسر وعدم خوفه من الموت، ومثلها كانت الأبيات التي قالها أبومحجن الثقفي، وهو شاعر كبير وفارس بارز من قبيلة «ثقيف»، وله صولات كثيرة في قراع المسلمين أيام كان مشركا، و «مناكفات» طريفة مع عمر بن الخطاب أثناء حصار الطائف، وقد عرف الرجل بشرب الخمر وحبها، ولم يردعه عن حبها أن يجلد في كل مرة وتمس كرامته أمام الناس، وبلغ من حبه للخمر أنه اصطحبها معه أثناء معركة القادسية التي قادها خال رسول الله (ص) سعد بن أبي وقاص، لينتهز فرصة «المباحثات» التمهيدية بين سعد والفرس وينزوي منفردا بزجاجته، لكن «مخابرات» سعد علمت بالخمر وجاءت بالرجل، فأمر بأن يحبس، وابتدأت المعركة واشتدّ الأمر على المسلمين، واستشهد الكثيرون وكان أبومحجن يغلي في أسره وهو يرى المعركة تسير إلى غير صالح إخوانه، بينما لا يستطيع أن يفعل شيئا بسبب أسره، وهنا تفتّحت قريحته الشعرية عن أبيات غاية في الجمالكفى حَزَناً أن تُطعَنَ الخيلُ بالقَنا وأُصبِحَ مَشدوداً عليَّ وَثَاقياإذا قُمتَ عَنّاني الحديدُ وأُغلِقَت مَصارعُ من دوني تُصِمُّ المُنادياوقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ فأصبحتُ منهم واحداً لا أخا ليافإن مُتُّ كانت حاجةً قد قَضيتُها وخَلّفتُ سَعداً وحدَه والأمانياوقد شَفّ جسمي أنني كلّ شارقٍ أعالجُ كبلاً مُصمَتاً قد بَرَانيافللّه درِّي يوم أُترَكُ مُوثَقاً وتذهلُ عني أُسرتي ورجالياحبيساً عن الحرب العَوَان وقد بَدت وإعمالُ غيري يوم ذاك العوالياوأرسلت هذه الأبيات لزوجة سعد فأمرت بالإفراج عنه وإعطائه فرس سعد فأثخن في الفرس قتلا، ورجعت المعركة للمسلمين بعد خسارة، ولعل الجميل أن الأسر هنا قد ترك بصمة رائعة على نفسية الأسير، إذ حوّله من شارب خمر لا يتورّع إلى مدمن بطولات لا ينحني. وفي الشعر العربي روائع كثيرة من شعر الأسر، كرائعة علي بن الجهم الذي عرف السجن لدواعٍ سياسية، وكتب قصيدته الشهيرة «قالت: حبست. فقلت: ليس بضائري/ حبسي، وأي مهنّد لا يُغمدُ/ أَو مَا رأيتِ الليثَ يألفُ غِيلَة/ كِبراً، وأوباش الشباب تَردّدُ/ والشمس لولا أنها محجوبةُ/ عن ناظريك، لما أضاءَ الفرقدُ/ غيرُ الليالي بادئات عوّدٌ/ والمالُ عاريةٌ، يفاد، وينفدُ/ والحبسُ ما لم تغشَه لدنيّةٍ/ شنعاءَ، نعمُ المنزِلُ المتورّدُ/ بيت يجدد للكريم كرامة/ ويزأر فيه، ولا يزور ويحفد»، أما السجين العربي الأشهر فهو بلا شك أبوفراس الحمداني، الرجل الذي أذاق دولة الروم الويل، ما دعاهم للسرور كثيرا بأسره، ويبدو أن السرور كان مشتركا إذ إن ابن عمه سيف الدولة الحمداني سُرَّ هو الآخر لأسره، وتماطل في تحريره، فكان أسره بركة على الشعر العربي، إذ أنجب الشاعر بعضا من أجمل القصائد الخالدة، كقصيدته الذائعة «أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر/أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر؟ / نعم أنا مشتاق وعنديَ لوعةٌ / ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ / إذا الليل أضواني بسطتُ يدَ الهوى / وأذللتُ دمعاً من خلائقهِ الكِبْرُ»وبعيدا عنها فقد مر الأسير الشاعر بكثير من الحالات الإنسانية التي صوّرها، ومن بينها مرض والدته ورغبته في رؤيتها، حيث قال حينها بأنه لولا خوفه عليها لما همّه السجن «لولا العجوز بمنبجٍ / ما خفت أسباب المنيّهْ / ولكان لي عمّا سألت / من فدا نفسا أبيّهْ»، وقصيدته العتابية لابن عمه «مصابي جليل والعزاء جميلُ/ وظني بأنّ الله سوف يديلُ/ جراح وأسر واشتياقٌ وغربةٌ/ أهمّكَ؟ إنّي بعدها لحمولُ»، وقصيدته التشاؤمية التي ضمّنها خوفها من عدم تحريره: «بمن يثق الإنسان فيما نواه؟ / ومن أين للحرّ الكريم صحاب؟»، وإذا كان أبومحجن قد خرج من السجن بطلا فإن أبوفراس قد خرج منه ناقما وشنّ حربا انفصالية على دولة ابن عمه انتهت إلى قتله!وفي التاريخ الحديث قصص جميلة أيضا، فقد أسر العثمانيون أحد زعماء الجزيرة العربية، الشيخ راكان بن حثلين، وقادوه للقسطنطينية، ولم يفكّ أسره لولا مشاركته الحاسمة في الحرب الروسية العثمانية، حيث أطلق سراحه العام 1877 م، فخرج الرجل من السجن وخرجت معه قصائده التي نظمها هنالك وبينها قصيدة باللغة العامية ويقول فيها: «أخيل يا حمزه سنا نوض بارق / يفري من الظلما حناديس سورها / على ديرتي رفرف لها مرهش النشا / وتقفاه من دهم السحايب حشودها / فيا الله يا المطلوب يا قايد الرجا / يا عالم نفسي رداها وجودها / إنك توفقها على الحق والهدى / ما دام خضراً ما بعد هاف عودها / وأبدل لها عسر الليالي بيسرها / وحل المشاكل فل عنها عقودها»، ومن الطريف أن قصة الشيخ راكان هي بالتمام قصة أبومحجن، فهل كانت صدفة أم أن الرواة لعبوا دورهم في الموضوع؟!ومن قصائد السجن أيضا، ما كتبه شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء، الذي قدّم قصيدة خالدة يصف فيها توجّه الأسير إلى المقصلة، ويخلّد فيها شجاعة وثبات أحد هؤلاء الأسرى وهو الشهيد أحمد زبانة الذي كان أول مناضل جزائري ينفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة، فكان يمشي إليها وهو يكبّر ويعلن سعادته بأنه الرقم 1، فكانت رائعة مفدي على قدر رائعة شجاعته ومنها «قام يختال كالمسيح وئيدا / يتهادي نشوان يتلو النشيد / باسم الثغر كالملاك أو كالطفل / يستقبل النهار الجديد / شامخا أنفه جلالا وتيها رافعا رأسه يناجي الخلودا / حالما كالكليم كلمة المجد / فشد الحبال يبغي الصعودا / وتسامي كالروح في ليلة القدر / سلاما يشع في الكون عيدا / وامتطى مذبح البطولة معراجا / ووافي السماء يرجو المزيدا / وتعالي مثل المؤذن يتلو / كلمات الهدى ويدعو الرقودا / صرخة ترجف العوالم منها / ونداء مضى يهز الجدودا / اشنقوني فلست أخشى حبالا / واصلبوني فلست أخشى حديدا / وامتثل سافرا محياك جلادي / ولا تلتثم فلست حقودا / وامض يا موت في ما أنت قاض / أنا راض إن عاش شعبي سعيدا / أنا إن مت (فالجزائر) تحيا / حرة مستقيلة لن تبيدا».وفي الشعر الفلسطيني درر «سجنية» فاتنة الروعة والجمال، وبينها ما كتبه الشهيد الفلسطيني راشد حسن والتي يمكن تسميتها بقصيدة «مرحبا بالسجن»، فهذا الرجل وإن لم يسجن فقد كان يتوق لذلك، وكتب ذات يوم «قالت أخاف عليك السجن؟ / قلت لها: من أجل شعبي ظلام السجن يلتحف / لو يقصرون الذي في السجن من غرف / على اللصوص لهدت نفسها الغرف / لكن لها أمل أن يستضاف بها / حر فيزهر في جنباتها الشرف / قالت: حلمت بطفل لا أريد له / أباً سجيناً فقلت الحلم يعتكف / أتحلمين بطفل قلب والده / عبد؟ أعيذك من عبد له خلف»، أما الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي،الزعيم السابق لحركة حماس الفلسطينية، فقد لا يعرف كثيرون أنه شاعر، ولكن عبقريته الشعرية قد تجلّت بقوة خلال فترة سجنه ومن بين قصائده الجميلة واحدة بعنوان «حديث النفس» وفيها يحاكم نفسه ويدعوها للتجلّد «يا هذه يهديك ربك فارجعي/ القدس تصرخ تستغيثك فاسمعي / والجنب مني بات يجفو مضجعي / فالموت خير من حياة الخنع» إلى أن قال «أنا لن أبيت منكسا للألمع / وعلى الزناد يظل دوما إصبعي / ولئن كرهت البذل نفسي تصفعي / من كل خوار ومحتال دعي / وإذا بذلت الغالي مجدا تصنعي»، وله أيضا قصيدة جميلة للغاية كتبها في حفيدته «أسماء» التي حال بينه وبين تقبيلها جدار السجن وإن تكحلت عينه برؤيتها «رأيتُ النورَ يضحك في ضُحاها / ويسطع في دجى الدنيا سناها / وطيبٌ من أريج المسك تزكو / به النسمات بعضٌ من شذاها / وتبسُطُ زهرة الحنون خدًّا / عسى تُقْرِيه تقْبيلا شِفاها / وأنَّى للمضاجعِ من هُجوعٍ / إذِ الأغلالُ تسلبها كَراها / يعِزُّ النومُ تهجره جفوني/ وعينُ الصبِّ تَسهَدُ من شجاها / ولولا ثقْلَةُ القيد امتطينا / لـ «أسما» كلَّ صعبٍ كي نراها».هذه بعض من نتف أدب عزيز على قلب التاريخ العربي، أدب السجن والأسر والتحرير، والذي قدم عبر قرون طويلة دررا بالغة الجمال لكل قراء العربية.
العرب القطرية -7/7/2008

الاثنين، 14 يوليو 2008

«حدائق الله».. حكاية الغباء المنتج للدم



كيف يمكن أن نحول العابث إلى إرهابي والباحث عن ساحات الجهاد إلى باحث عن أميرة حسناء والباحثة عن التميز الصحافي إلى مجندة للمخابرات الأميركية.. هذا ما تجيب عنه الرواية الأخيرة للكاتب التونسي سعيد الصافي.

الدوحة ـ شبّوب أبوطالب

تنطلق القصة ببطلين مزدوجين هما «عبد الرحمان» و «إيزابيل»، والاثنان على طرفي نقيض ظاهريا، فـ «عبد الرحمان» جزائري بكل الطباع الموروثة عن أجداده من عصبية وميل لحسم الأمور ووضعها في نصابها بسرعة وعدم تقبل أي انقياد للآخرين، أما «إيزابيل» ففرنسية تحب المخاطرة وتأخذ من مهنتها الصحافية زادا يعنيها على تحقيق مبتغاها، ومن تغطية الحروب والنزاعات أسلوبا مفضلا لممارسة هواياتها، ويلتقي الاثنان في مناسبة عامة فتعجب الأنثى بالذكر وينطلقان إلى المؤسسة الرسمية زوجا وزوجة، ولكن الحياة بينهما تستحيل، فالزوج عربي أشرس -في تدقيقه مع زوجته- من إدارة موظفين تلاحق الجادين وتترك الهازلين! أما زوجته فموظفة منطلقة لا تحب أن تقدم تقريرا بخططها اليومية لشخص لا يربطه بها إلا كونه زوجها!ينفصل الزوجان ويبدأ كل منهما رحلة في اتجاه مجهول، فإيزابيل تواصل سعيها خلف مطاردة الخبر الساخن والمعلومة الطازجة، أما زوجها فيتدَيّن بعد لقائه ببعض النشطاء الإسلاميين في باريس ويتحول تدريجيا إلى راغب في «الجهاد»، ومن فرنسا إلى السودان حيث يستعان به لصناعة سلاح يعين على تدمير القدرات العسكرية الأميركية، وهناك في الخرطوم يعايش حقيقة الحركات الإسلامية، ويعرف أنها كالوهم الذي جاء في غير أوانه، فلا الدنيا هي الدنيا ولا الناس هم الناس ولا الحسابات التي وضعها مخططوها صدقت يوما، وتتلوى الحياة في معسكر «الجهاد» بين خيانة الزعماء المحليّين والتلاعب الدولي بمصير المقاتلين الذين أنجبتهم مرحلة تركيع الجبروت السوفييتي، وهنا يقرر «عبد الرحمان» أن يثور هو وأصدقاؤه ويؤسسوا لعمل «جهادي» جديد، وتتوفر الفرصة المناسبة حينما يفر أحد الزملاء إلى تركيا ومعه مليون دولار، وتكلف القيادة «عبد الرحمان» بإقناعه بالعودة لكنه لن يقنعه بشيء سوى بدخيلة نفسه التي لم تظهر بعد، فمن السودان إلى مصر ولاحقا إلى تركيا، وهناك يلتقي بمطربة شهيرة أعلنت توبتها فتعطيه رقم «أميرة» تقيم في بريطانيا قائلة إنها ستساعده، وفي بريطانيا يحدث الازدواج في حياة بطلنا، فمن جهة هو يؤسس جماعة مسلحة جديدة، ومن جهة ثانية هو يغرق في غرامياته مع «الأميرة»، وبينما يقدم لأتباعه دروس الطهر والنقاء فإنه يهرع في الليل إلى «فراش حرام»، والغريب أن البطل يمارس عبثه بذات الإخلاص الذي يمارس به «جهاده»!أما «إيزابيل» فتعيش الازدواجية هي الأخرى، إذ تعيش على ذكريات رجل وزواج منتهٍ، وتعيش في مستوى آخر حياة العشق المجنون لأميركي لم تره سوى على شاشات النت، حيث تبادلا بعض الآراء السياسية، وشيئا فشيئا تنمو العلاقة بينهما خصوصا أن مجال النقاش يتسع، فـترحل «إيزابيل» إلى دول البلقان لتغطي حرب كوسوفا، وهناك تلتقي بإسلاميين «مُعَوْلَمِين» يبعثون فيها الرغبة في البحث حول دوافعهم وخلفياتهم، وهو ذات موضوع اهتمام صديقها الإنترنيتي «دوغ» الذي يبدو مهتما جدا بعالم الإرهابيين.يصل خط الرواية من جديد بين البطلين في شكل عبثي مميز، فيستكمل «عبد الرحمان» المتمرغ في مال الأميرة وفراشها تأسيس جماعته الإرهابية ويختار لها اسم «حدائق السماء» الذي يشتقه من اسم الفندق الذي يسكنه، أي فندق «sky garden» اللندني العريق، ويطير من لندن إلى أفغانستان بحجة خوض المعركة الفاصلة مع «الكفار»، أما «إيزابيل» فتكتشف أن صديقها الأميركي يشتغل مع وكالة الأمن القومي ومهمته هي محاربة الإرهاب، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه يجندها للتعرف على إرهابي خطير يملك سلاحا فتاكا واسما رنانا «أبو يحيي الأنصاري».. والذي لم يكن إلا زوجها السابق!.. وهنا يسدل الستار عن الرواية: زوجة ذاهبة للتجسس على زوجها دون أن يعرف كل منهما ما الذي ينتظره.لا تقدم الرواية نموذجا من نماذج الجنون التي تجتاح عالمنا العربي وحسب، بل إنها ترسم تفاصيل كثيرة وتتحدث في مواضيع متعددة، فمن خلال فتاوى «أبو يحيي الأنصاري» يتطرق الكاتب للانحراف الفكري الذي انخرطت فيه حركات المتشددين، فمن محاربة الأنظمة إلى قتل الأفراد ومن القتل المنظم العشوائي ومن «الفكرة» إلى «الهمجية»، وهناك في المقلب الثاني لمحة تفصيلية عن حياة الدبلوماسيين العرب من خلال ذكريات البطل وأصدقائه، ومنها نستشف أن عمل هؤلاء لا يتعلق بحماية مصالح دولهم، بل بتوفير كافة شروط الراحة لعائلاتهم أثناء تجوالها في البر الأوربي، ويشمل ذلك مصاريف السهر والعربدة، وكذا التوسط في صفقاتهم التجارية وتدبير متطلبات الانحراف الأخلاقي والمالي، أما إيزابيل فتكشف لنا زيف الصحافة الغربية ومدى التواطؤ الكامن بينها وبين أجهزة الأمن وأرباب المصالح، وكذا جهلها المطبق بما يحدث في العالم الحقيقي وبحثها المتواتر عن الصيغة التي تريحها في التعاطي مع أي حدث، بحيث لا يتوفر نقل دقيق ولا يكون هنالك اهتمام بالموضوعات الجادة، وإنما ينصب الاهتمام على «الموضوعات المرغوبة» أمنيا وسياسيا.تكشف الرواية أيضا كمّ الغباء الذي يتوفر عليه قطاع عريض ضمن المسماة بـ «الإسلاميّين» والسطحية العالية في التعاطي مع الشأن السياسي، والرغبة في تحقيق إنجازٍ مدوٍّ بغض النظر عن فعاليته وأهميته الميدانية ولا حتى عن عدد الضحايا الذين تذهب أرواحهم ضحية له، كما يتبدى واضحا الاختراق الاستخباري لعالم الإسلاميّين، والعبثية الرهيبة التي تسيطر على بعض قادتهم، ففيما يخطط «أبو يحيي الأنصاري» لهزيمة أميركا فإنه بذات الحين يفرح بميلاد ابنه غير الشرعي من الأميرة! وطبعا فإن هذا النموذج من القادة لا يمكنه إلا أن يهزم الدنيا ولكنه يستحيل أن يهزم ذاته!يشدّ أحداث الرواية جميعها خطّ ناظم يمكن أن يفسر كافة تفاصيلها، فالدنيا ليس هذا العالم الخارجي بل هي الذات الإنسانية المسكونة بالهواجس والشكوك والظنون، وكل الذي يفعله الإنسان من سياسة وحروب وجنس لا يمثّل رحلته إلى المجد أو الهلاك، ولكنه رحلته إلى الجانب الذي لا يعرفه من نفسه، وأدويته التي يقترحها على أمراضه المستعصية، وبالتالي فالمعركة الأساسية في داخله لا في خارجه، وذلك هو المعنى العمق للبيت الشعري الذائع الصيت «أتزعم أنك جرم صغير / وفيك انطوى العالم الأكبر؟».يبرهن سعيد الصافي في روايته الأولى على موهبة حقيقية، ولا بد أن كتابه الشهير «بورقيبة.. سيرة شبه محرمة» كان تدريبا عاليا على امتلاك زمام العمل الروائي، وقد ظهر أثره بقوة في قدرته على رسم الشخصيات وإدارة الحوار بينها ببراعة، ناهيك عن إحساسه العالي بالزمن واستغلاله الجيد للمعلومات التي استطاع جمعها خلال مسيرته الصحافية الممتدة على مدار 30 سنة.. كتاب يستحق القراءة!

العرب القطرية ـ 2008-07-11

الأحد، 13 يوليو 2008

تركيا.. أزمة الثقافة حينما ترفض التعددية




الدوحة - شبّوب أبوطالب
أليس مضحكا أن تكون تركيا بلدا للحرية والديمقراطية والتنمية المزدهرة، ومع ذلك تضيق بقطعة قماش تسمى حجابا؟ وقبل ذلك أليس مضحكا أن تكون المبادئ الثقافية التي قامت عليها ثورة أتاتورك نفسها ضد هذه التوجهات الجديدة لحظر حزب لمجرد أن بعض أفراده لديهم تفكير يختلف عن تفكير أصحاب القبعات الثقيلة.
عادت تركيا لتخطف الأضواء مجددا عطفا على التجاذب الكبير بين مؤسستها العسكرية وحزبها الحاكم، وإذا كان الجانب السياسي للقضية معروفا فإن الجانب الثقافي يظل مواربا ومختفيا، ولعل أكثر المفاجآت التي يخفيها أن الزعيم أتاتورك (12 مارس 1881 - 10 نوفمبر 1938) لم يكن ليفعل ما يفعله الناطقون باسمه في العصر الحالي، ما يعني أن المعركة في حقيقة الأمر لا تتعلق بخلاف سياسي بل بمنطق ثقافي يتكئ على الإرث الأتاتوركي -محصّن بمصالح ضخمة- ليرفض أي تغير في وضعية المجتمع ولو نحو الأحسن.ولأن المعركة الحالية في تركيا غريبة جدا عن المنطق فإن مراجعة بعض من مقولات أتاتورك قد تكشف بعض المستور، فالموقع الرسمي لوزارة الثقافة والسياحة التركية (http://www.kultur.gov.tr) ينقل مجموعة رائعة من آراء أتاتورك، ولنقرأ ما يقول في خصوص الدين مثلا «الدين قضية ضمير، ولِكُل كامل الحرية للالتزام بالنظام الذي يريح ضميره، لسنا ضد الدين ولا ضد التفكير»، فأتاتورك إذن ليس مع فرض نمط معين من اللباس أو التفكير على أي من الأشخاص الحائزين على مواطنية دولته، وإذا كان لقائل أن يقول بأن أتاتورك قد فرض الكثير من الأشياء على شعبه، فإن التاريخ نفسه يخبرنا بأن الانتقال من جهة أيديولوجية إلى أخرى يمر عبر مرحلة تغيير متشددة، ولكن هذه المرحلة التي تحفل بـ «التطهير الثوري» مؤقتة بجميع الأحوال ولا يمكن أن تفرض سِمَتها إلى نهاية التاريخ.يبدو غريبا في الدولة التي قال مؤسسها «إننا نحاول ببساطة منع الخلط بين الشؤون الدينية وتلك المتعلقة بالأمة والدولة»، يبدو غريبا في هذه الدولة أن يتم التحضير لمنع حزب حاكم لمجرد أنه أباح لكل شخص الحق في التعليم والعمل بعض النظر عن اللباس الذي ارتضاه لنفسه! أو عكف على التزامه الديني رغم أن أتاتورك قد قال في العام 1923 «ديننا هو الدين الأكثر منطقية، ولهذا كان آخر الأديان.. لكي يكون أي دين طبيعيا يجب أن يكون متوافقا مع العلم والمنطق، وديننا يتوافق مع كل ذلك بشكل كامل»، والغريب أن هذا التراث الذي تركه «أبو الأتراك» يبدو مهجورا ومتغافلا عنه بشكل فظيع للغاية، رغم أن استقراءه يمكن أن يفيد الأتراك بشكل كبير، فالدولة التي يقول مؤسسها «أساس الجمهورية هو الديمقراطية، ولست محتاجا لتفسير هذا الرأي، لأنه مترجم علميا في مدارس الجمهورية التركية.. الثقافة هي القراءة، المعرفة، التفكير وإعمال الذكاء»، هذه الدولة نفسها لا يمكن أن تضيق بمنطق ثقافي مختلف، ولو كان هذا المنطق إسلاميا، كما لا يمكنها أن ترفض التعاطي مع أي تعبير ديني أو ثقافي -كالحجاب مثلا- ما دام أنه لا يمس بشيء الآداب العامة ولا يؤدي إلى أية مضرة اجتماعية.وإذا ما حاكمنا دولة العدالة والتنمية على أساس من مبادئ أتاتورك نفسه فلعلها تكون أقرب الحكومات إلى فكره، أليس هو القائل عام 1929 «نحن نفهم الثقافة على أنها النتيجة الطبيعية لما يمكن أن يصنعه مجتمع إنساني ضمن حياته المؤسسية والثقافية والاقتصادية.. وتلك هي الحضارة بالمناسبة»، وبالتالي فإن مشكلة «الحجاب» هي في رأي أتاتورك الصريح نفسه جزء من الأداء الإنساني لمجتمع حدد خياراته، وسيرها بشكل معقول، فالمجتمع التركي بحضارته التي يعرفها الجميع أسّس لنفسه مجموعة خيارات سلوكية ومجتمعية، وما دامت هذه الخيارات كلها تدخل ضمن النطاق «الإنساني» أي نطاق الحرية الشخصية، فليس واردا أن تصادم القناعات الأتاتوركية، ولعل هذا المعنى قد يجد صداه في الشعار الذي خاض به حزب العدالة والتنمية معركته السياسية حول الحجاب، إذ لم يتم خوضها تحت المسمى والشعار الديني بل تحت لافتة «حقوق الإنسان»، وسيكون من الخيانة للمبادئ المؤسسة للجمهورية التركية أن يفرض على أبناء شعب نمط معين من اللباس لا يقتنعون به، أو نمط معين من التفكير ولا أن تصادر قناعاتهم الشخصية.ما الذي يحدث في تركيا؟ إن تفسير الحدث التركي بجانبه السياسي وحده يعد إخلالا بجوهره، كما أنه اختزال غير مبرر لقضية شائكة، فليس منطقيا أن الجيش يجاهر برغبته في الانضمام للاتحاد الأوروبي ثم يؤسس لانقلاب حكومي قد يبعد تركيا نهائيا عن هذه المنظمة العتيدة؟ وليس منطقيا أن الجيش يتحدث باسم الحرية ولكن يناهض توجها حكوميا لإعطاء الناس حرية اللباس! والحاصل في تركيا أبعد ما يكون عن معركة دينية، فهو بالأساس معركة ثقافية مصلحية، ذلك أن النظام الأتاتوركي الأول قد حمل نخبا معينة إلى الحكم، وقد اتسمت هذه النخب بالثقافة الغربية، وقد حصنت نفسها بمجموعة متماسكة من الجدران الثقافية والمصلحية التي ابتعدت بواسطتها عن الشعب التركي، وتقوقعت حول ذاتها، والذي يحدث الآن هو أنها ترفض ثقافة الأجيال الجديدة، والرهيب أنها تفعل ذلك باسم الدفاع عن العلمانية والديمقراطية، فيما تعني العلمانية والديمقراطية الحقيقيتان: إعطاء الناس حق الاختيار.لا تخوض تركيا معركة العودة إلى الإسلام أبدا، ولكنها تخوض معركة التجديد الفكري والثقافي، وتخوض معركة التحديث الحقيقي، ومعركة التغيير الكبير في المضامين التي تحكم حياة المجتمع العثماني المقبل على التصالح مع ذاته، والذي لا يمكن أن يقبل بجزء من هويته ويرفض جزءا آخر، ولمزيد من سخرية التاريخ فإن أتاتورك قال ذات يوم «سنتفادى الحركات الرجعية، ولن نسمح أبداً بإتاحة مثل تلك الفرصة للرجعيين»! فإذا كان معنى الرجعية هو أنها التيار الذي يشد المجتمع لأنماط ثقافية وسياسية غير متلائمة مع حقائق اليوم، فإن عسكر الترك يخوضون اليوم معركة «رجعية» ضد المفكرين الإسلاميين «الحداثيين»!... ولمزيد من السخرية أيضا فإن زوجة أتاتورك.. كانت محجبة!
العرب القطرية
2008-07-13

السبت، 12 يوليو 2008

في ذكرى غسان كنفاني




الدوحة - شبّوب أبوطالب

تمر علينا هذه الأيام الذكرى السادسة والثلاثون لاستشهاد المناضل الفلسطيني غسان كنفاني الذي اشتعل بسرعة وصخب خلال عمره القصير وأودع الأدب العربي روائع يندر مثلها، وذهب مسرعا مخلّفا حرائق لم تنطفئ لغاية اللحظة.يقف العالم العربي كل سنة أمام اليوم الثامن من الشهر السابع ليتذكر واحدا من أبنائه الذين قدموا له الكثير، واستطاعوا رغم قصر العمر أن يصنعوا لأنفسهم وبلدانهم الكثير من المجد والأدب الجميل، وعبروا بألسن الناس وعواطفهم فكانوا خير ممثل لهم وإن لم يحوزا مناصب أو يحصدوا مكاسب، ولعل غسان كنفاني واحد من القلة التي اختطّت هذا الدرب وسارت عليه، ومثله أبو القاسم الشابي والزعيم المصري مصطفى كامل.. الخ.ولد غسان كنفاني في منطقة عكا التاريخية الفلسطينية، ومنها تم طرده وأهله عام 1948 إلى سوريا -بفعل الاحتلال الإسرائيلي- ثم إلى لبنان حيث تجنّس واشتغل في مجلة «الحرية» التابعة لحركة القوميين العرب، ثم رأس تحرير جريدة «المحرر» ومن ثم «الأنوار»، ولاحقا عمل في جريدة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين «الهدف» التي رأس تحريرها أيضا.بدأ شغفه بالأدب باكرا، ويبدو أنه كان من طينة أولئك الذين تضيق بموهبتهم مقررات الدراسة، إذ إنه انتسب لدراسة الأدب العربي ثم توقف عن الذهاب للجامعة متفرغا للعمل السياسي في الجبهة الشعبية، ناهيك عن انشغاله الأدبي الكبير، حيث تمكّن في فترة وجيزة من أن يخرج إلى النور روايات «رجال في الشمس» و «ما تبقى لكم» و «أم سعد» و «عائد إلى حيفا»، أما المجموعات القصصية فأخرج منها «موت سرير رقم 12» و «أرض البرتقال الحزين» و «عن الرجال والبنادق» و «عالم ليس لنا»، بالإضافة إلى دراسته «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال» 1948-1968»، كما أصدرت بعض أعماله المخطوطة بعد وفاته كـ «الشيء الآخر» و «العاشق، الأعمى والأطرش، برقوق نيسان» و»القنديل الصغير».. وهذا الكم الكبير من الأعمال المنشورة مضافا إليه عبء رئاسة تحرير جريدة يومية وكذا العبء الحزبي والتنظيري والعمل في الميدان العام كان كفيلا بأن يكسر ظهر جبل، فما بالك إن كان صاحبه مصابا بداء السكري ومعتل الصحة ويعاني حساسية صدرية دائمة. لقد تمكن كنفاني من عمل كل تلك المهام في وقت واحد واستطاع قبل ذلك وبعده أن يتزوج وينجب ويعيش حياة أسرية واجتماعية حافلة.ولعل نقطة الضعف الوحيدة للرجل هي حياته الذاتية، فهذا الرجل المسلح خارجيا بكم هائل من الطاقة والثقافة والثقة بالنفس والروح الثورية كان هشا جدا من الداخل، ولعل شعوره المرير بالغربة واليتم قد جعل منه كائنا يبحث عن أي طريق للعطف والحنان وأي تعامل يشعره بإنسانيته، وهذا الذي دفعه للزواج بـ «آني» الأوروبية التي يصفها بالقول: «في ذات الصباح الذي قررت أن أتزوجها كنت على وشك الاتفاق مع امرأة نصف ثرية ونصف جميلة ونصف (تحبني) ونصف شابة على أن نعيش معا. كانت تلك المرأة نصف الطريق إلى السقوط وأردت أن أجعلها محطتي كي أقبل الرحلة كلها فيما بعد إلى قرار القاع السحيق والمنسي.. وجاءت «آني» ذلك اليوم في واحدة من الومضات التي تبرق في ضمير كل إنسان على ظهر هذه الأرض... وكانت فرارا»، وطبعا كان هذا النوع من الزواج غريبا بل وربما غبيا، فالرجل لم يعرف من «آني» إلا أنها أوروبية مهتمة بالقضية الفلسطينية، التقاها في مؤتمر للكتاب فتزوجها بدافع من الشفقة على النفس، وقبِلته بدافع من الشفقة على الأيتام، فكانت حياتهما معا مزيجا من الغربة والحيرة والامتنان، أو كما قال هو ذاته في رسالة وجّهها لأخته: «لا، لا إن الحب شيء وعلاقتي بها شيء آخر.. فحين عجزت عن ردم الهوة بيننا، ردمتها بطفلين، تخليت عن حياتي السابقة في سبيلها. كانت وما زالت امرأة رائعة، ربما الشيء الوحيد في هذا الكون الذي أستطيع برضا لا حدود له أن أقدم لها حياتي إذا ما تعرضت لخطر الغياب»، ولكن هذا الزواج القائم على مشاعر مبهمة سرعان ما اصطدم بكارثة تسمى غادة السمان، الفتاة اللبنانية الجميلة التي كانت تخطو خطواتها المثيرة في عالم الأدب العربي، وقد تبناها غسان كنفاني بقوة، كرجل وكأديب، إلا أن المرأة التي يبدو أنها صدمت بهشاشة الرجل قد قررت التعامل معه بشيء غير قليل من اللامبالاة والاحتقار، رغم أنها هامت به لبعض الوقت، وهكذا تحول الأديب السامق القامة إلى مجرد رقم في قائمة طويلة تمثل عشاق غادة السمان، وتحولت هي من فتاة حالمة بلقائه إلى أنثى متجبرة تعشق إذلاله، ولعل مراجعة أولى رسائله إليها ستكشف طبيعة العلاقة بينهما إذ يقول غسان: «أعلم أن كثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش..وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين.. ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيّل إليّ الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك»، ويعني هذا أن الأديبة اللبنانية قد بادلت الرجل الغرام وربما أشياء أخرى لتعود لاحقا فتلغيه بعد أن حصدت من ورائه الشهرة وقدمها إلى المحافل الأدبية، فجازته شر الجزاء، والغريب أن الرجل الثائر لم يتمسك برجولته ويهجرها بل ظل يطاردها برسائله وعواطفه المشبوبة فيقول مثلا: «تعرفين أنني أتعذب، وأنني لا أعرف ماذا أريد، تعرفين أنني أغار وأحترق وأشتهي وأتعذب. تعرفين أنني حائر وأنني غارق في ألف شوكة برية، تعرفين ورغم ذلك فأنت فوق ذلك كله تحولينني أحيانا إلى مجرد تافه آخر»، ويقول في أخرى: «إنني على عتبة جنون»، وفي ثالثة: «يخيّل لي أحيانًا أنها أمام الناس تحاول إذلالي»، وفي رابعة: «أحيانا أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع!»، وفي خامسة: «تُرى ما الذي يُذكّر هذه الإنسانة بي إلاّ الذل».وقد كانت الهدية الكبرى من غادة إلى غسان كنفاني بعد وفاته في 8/7/1972 هي نشرها للرسائل التي كتبها لها عام 1992، كنوع من «إخراج الخاص إلى العام» على طريقتها، وأثار نشر تلك الرسائل عاصفة لم تنتهِ، ورأى فيها الكثيرون محاولة لتشويه سمعة الرجل، إلا أن غادة تمسكت برأيها معلنة أن هذه الرسائل تُخرج كنفاني من دائرة التقديس الزائف الذي يضفيه بعض العرب على عظمائهم، وأنها تضيء جانبا مهما من حياته، وطالبت من يملك الرسائل التي أرسلتها له بنشرها حيث إنها لا تعرف عن مكانها شيئا! وزاد السخرية أن غادة التي أهانت الرجل -على حد قوله- في حياته قد قالت بعد وفاته: «لا أستطيع الادعاء -دون كذب- أن غسان كان أحَب رجالي إلى قلبي كامرأة.. كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف بهم -بعد الموت- وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي.. ولكن بالتأكيد كان غسان أحد الأنقياء القلائل بينهم»، ومثل هذا الكلام يشكّل ضربة موجعة لهذا الرمز العربي الكبير.لقد كان غسان كنفاني كائنا مجهزا بكل أسلحة النضال السياسي والثقافي إلا أنه بذات الحين كائن قد حوّلته المنافي والاغتراب والظروف العائلية الصعبة إلى متعطش للعطف والحنان ومكبّل اليد والقلب أمام من يوحي له بالثقة والفرادة، وقد كانت السمان جزءاً من هذه العقدة التي أحاطت به، ولم تفعل غادة بالرجل شيئا سوى أنها استعملته حيا وميتا، واستفادت منه في الحالتين، ولم يفعل غسان شيئا سوى أنه ألقى حجارة بيته في غير موضعها!يقول بعض الذين درسوا حياة الأديبين الكبيرين إنه من الظلم الحكم على غادة السمان بقسوة، ولكنّ الحكم على غسان بالغباء لأنه تواصلَ معها لن يكون قسوة، والحكم عليه بسوء الحظ لن يكون إلا شفقة على ذلك الذي أعلن ذات يوم كأنه يرثي نفسه «هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل.. من داخل نفوسهم»، وقد كان أحدهم وربما أكبرهم.


العرب القطرية ـ 2008-07-12